تلقيت ببالغ الاعزاز والتقدير دعوة من منتدى مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافى بالأردن لالقاء محاضرة فى 7/11/2016 تحت عنوان «حال الفلسفة فى الوطن العربي» يعقبها حوار يديره الدكتور أحمد ماضى أستاذ الفلسفة بالجامعة الأردنية. والجدير بالتنويه أن مؤسسة شومان تأسست من أجل إشاعة الفكر العلمى وتحريض الأجيال الجديدة من العلماء والباحثين على الابداع العلمي، وعلى مائدة غداء قبل المحاضرة التقيت المسئولين عن ادارة المؤسسة، وإذا كانت عظمة الانسان تقاس بعظمة رسالته، فهؤلاء المسئولون عظماء. وبعد ذلك ألقيت المحاضرة أمام حضور ثلاثمائة ونشرتها صحيفتا «الغد» و«الدستور» بالأردن، وأنا أكتبها فى ايجاز. عنوان المحاضرة يشى بأن ثمة علاقة بين الفلسفة والوطن العربي، وحيث إنه لا فلسفة بلا فلاسفة فيكون الحديث عن الفلسفة هو حديث عن الفلاسفة والفلاسفة غائبون. والسؤال إذن: لماذا هم غائبون؟ أجيب عن ضوء ما حدث فى ثورات الربيع العربي، فماذا حدث؟ كان التناقض قائماً بين حرمان الشباب من تطلعاته المشروعة وهيمنة الأصوليات الدينية مع الرأسمالية الطفيلية فى العمل سوياً على إبطال إعمال العقل، وعندما يغيب العقل يغيب التطور للأفضل، كان هذا هو جوهر الوضع القائم المأزوم، ومن هنا جاءت ثورة الشباب، إلا أن هذه الثورة لم تكن على وعى بأبعاد الوضع القادم لأن تفجير هذا الوعى يستلزم التفلسف، والتفلسف يستلزم إعمال العقل الناقد فى الموروث مع تحمل النتائج المترتبة عليه، وهو أمر يكاد يكون منعدماً. وأدلل على ما أقول. فى القرن الحادى عشر كفر الغزالى فلاسفة المسلمين لأنهم تأثروا بفلاسفة اليونان الوثنيين. وفى القرن الثانى عشر ارتأى ابن رشد أن تكفير الفلاسفة المسلمين قد أحدث تأثيراً سلبياً على الذهنية الاسلامية فألف ثلاثة كتب ضده: «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» و «الكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة» و«تهافت التهافت». الفكرة المحورية فى الكتاب الأول مفادها أن المؤول لا يكفر لأن التأويل مطلب ضرورى للكشف عن المعنى الباطن للنص الدينى إذا تعارض المعنى الظاهر مع العقل. والفكرة المحورية فى الكتاب الثانى مفادها أن ثمة شرطين للتأويل: الشرط الأول ألا يكون مصدره المتكلمون لأنهم علة البدع. والفكرة المحورية فى الكتاب الثالث تكمن فى العبارة القائلة إن مَنْ رفع الأسباب فقد رفع العقل، وقد أدت هذه الأفكار الثلاث إلى تكفير ابن رشد وحرق مؤلفاته. وفى القرن الثالث عشر جاء ابن تيمية وتفرغ لابطال إعمال العقل عندما قال: وما هو ثابت بالسمع فهو ثابت سواء علمنا بالعقل أم بغير العقل ثبوته، ومن هنا يرفض ابن تيمية التأويل، وإذا امتنع التأويل انتفى إعمال العقل فى النص الديني، وهذا الانتفاء يعنى عزل العقل عن الدين مع طاعة العقل للسمع، وإذا لم تتم الطاعة فالتكفير لازم، وقد مارست هذا التكفير الوهابية فى القرن الثامن عشر، و حركة الاخوان المسلمين فى القرن العشرين. والسؤال بعد ذلك: فى هذا المناخ الدينى هل فى الامكان توليد فلاسفة؟ للجواب عن هذا السؤال أنتقى ثلاثة مفكرين: عبد الرحمن بدوي- زكى نجيب محمود- على سامى النشار. تفلسف عبد الرحمن بدوى فى كتابه «الزمان الوجودي» وفيه يحذف الوجود المطلق لأنه ليس وجوداً حقيقياً، والزمان هو العنصر الجوهرى المقوم لهذا الوجود، والزمان يعنى التناهى والتناهى يعبر عنه العدم، ويتحد العدم مع الوجود فى موضوع واحد هو التوتر، ولهذا فإن منطق الوجود هو منطق التوتر، وقد وعدنا بدوى بتأسيس منطقه الجديد ولكنه لم يف بوعده. وتفلسف زكى نجيب محمود فى كتابه «خرافة الميتافيزيقا» حيث يقول إن «الكائنات الميتافيزيقية أدخل فى باب الخرافة منها فى باب الواقع الذى يستند إلى التفكير العلمي». ومن هذه الزاوية اتهم بأنه خارج على الدين فأصدر طبعة ثانية لهذا الكتاب بمقدمة ينكر فيها أنه خارج على الدين ويتهم ناقديه بأنهم خلطوا بين الدين والفلسفة. أما على سامى النشار فهو أوضح من سابقيه إذ كان على وعى بالتهديد بالتكفير فامتنع عن التفلسف إذ جاء فى مقدمة كتابه «نشأة الفكر الفلسفى فى الاسلام» أن الفلاسفة المسلمين «مقلدة اليونان» والمقلد غير عقلاني. ففلسفة الاسلام الحقيقية عند المتكلمين. هذا هو حال الفلسفة فى الوطن العربى فإذا لم نكن على قناعة به فثمة طريق آخر هو تأسيس الرشدية العربية على غرار الرشدية اللاتينية التى نشأت لمناهضة النظام الالهى كنظام سياسى تسانده الكنيسة الكاثوليكية. وكان السؤال الذى أثاره ابن رشد وكان موضع اهتمام من فلاسفة جامعات باريس وايطاليا هو كالآتي: هل التفلسف عقليا مشروع؟ كان جواب ابن رشد أن ثمة صراعاً خفياً بين الشريعة والفلسفة إلى الحد الذى تبدو فيه الفلسفة غريبة عن الشريعة. ومن هذه النقطة بدأ التأثر فى أوروبا بابن رشد. وكان هذا التأثر واضحاً عند مؤسس الرشدية اللاتينية سيجير دى بربان عندما بحث العلاقة بين العقل والوحى فارتأى أن العقل قادر على معرفة الطبيعة دون اعتقاد. أما الوحى فيخبرنا عن حقائق فائقة للطبيعة وخارجة عن نطاق العقل. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن العقل مواز للوحى فلا سلطان لواحد على الآخر. ومن شأن هذا الرأى لبربان أن يكون مهدداً للسلطة الدينية. ومن هنا أُدينت الرشدية اللاتينية ومع ذلك لم يتوقف تأثيرها الايجابي. وفى المقابل يلزم تأسيس الرشدية العربية حتى يمكن إجراء حوار بينها و بين الرشدية اللاتينية ويكون من شأنه تأسيس تحالف فلسفى بين العالم الغربى والعالم الاسلامى لاجتثاث جذور الارهاب. وبغير هذا التحالف فالغلبة للارهاب. لمزيد من مقالات مراد وهبة;