منذ أن أعلنت النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية الأمريكية لم تتوقف الكتابات والتحليلات التى لم تخرج، فى معظمهما، عن تساؤلين: كيف ولماذا كان الفوز من نصيب دونالد ترامب؟ وهل سيستطيع ترامب أو هل سيلتزم بتحقيق ما وعد الناخبين بتحقيقه سواء على مستوى السياسة الداخلية الأمريكية وخاصة ما يتعلق بطرد اللاجئين وتخفيض الضرائب والتخلى عن نظام الرعاية الصحية للرئيس باراك أوباما، أو على مستوى السياسة الخارجية وبالذات الحد من التدخل فى الشئون الداخلية للدول، والتوقف عن سياسة الدعم المجانى لأمن الدول سواء كانت حليفة أو صديقة، أم أنه سيراجع هذه الوعود وسيضطر إلى إتباع «سياسة المواءمة» والاستماع لآراء ونصائح المعاونين والخبراء المحسوبين على نخبة الحزب الجمهورى والذين هم جزء أصيل من «مؤسسة الحكم» التى سبق أن أعلن الحرب عليها طيلة حملته الانتخابية؟ وعموماً نستطيع أن نقول أن نتائج تلك القراءات والتحليلات وحتى الدراسات العلمية التنبؤية لم تستطع الوصول إلى إجابات ترضى صناع القرار فى كل الدول دون استثناء. السبب فى ذلك يرجع أولا إلى غموض شخصية دونالد ترامب وكونه يعتبر «شخصية غير تاريخية» أى شخصية ليست لها تاريخ سياسى يمكن بدراسته تقديم رؤى وتصورات مستقبلية لسياساته المتوقعة، كما يرجع ثانياً إلى التناقض الشديد بين تصريحاته فى معظم القضايا لدرجة أن أى باحث مستحيل أن يصل إلى يقين بأنه مع أو ضد موقف معين أو سياسة معينة. الأوروبيون فى حيرة من أمرهم ولا يعرفون كيف سيتصرف هذا الرئيس مع حلفائه الأوروبيين، وهو الذى وجه انتقادات مريرة لحلف شمال الأطلسى (الناتو) ووصفه بأنه «حلف عفا عليه الزمن»، الأمر الذى جعل جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية يصف انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة بأنه «ينطوى على خطر بزعزعة العلاقات بين القارتين (الأوروبية والأمريكية)»، داعياً إلى «تلقينه ما هى أوروبا وما هى مبادئ عملها». الأمر نفسه ينطبق على روسيا وعلى اليابان والصين. نتنياهو اختار «سياسة التحسب» فى محاولة منه لضبط التوقعات بخصوص الرئيس الأمريكى الجديد وانحيازاته غير المسبوقة لإسرائيل بعد أن أدرك مدى تفلّت تعليقات وتوقعات السياسيين والإعلاميين «الإسرائيليين» من الرئيس المنتخب وإدارته. لم تأت سياسة التحسب هذه من فراغ، ولكنها جاءت أولاً لضبط توجه انتهازى من تيار اليمين المتطرف داخل الكيان الصهيونى الذى رأى نتنياهو أنه، أى هذا التيار، يريد أن يزايد على شخص نتنياهو وحزب «الليكود» الحاكم فى العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، اعتماداً على وجود شخصيات نافذة فى حملة ترامب تنتمى إلى هذا التيار، لكنها جاءت ثانياً، وهذا هو الأهم بدافع من توجس نتنياهو من الرؤى والسياسات المبهمة لدى ترامب بخصوص إدارة سياسة الولاياتالمتحدة فى الشرق الأوسط، وتخوفه من أن تكون هذه السياسة ليست على توافق مع ما يأمله نتنياهو ويريده من هذه الإدارة الجديدة. نتنياهو لا يريد ولا يكتفى بدعم أمريكى عسكرى واقتصادى وسياسى مطلق لإسرائيل يفوق كل ما حصل عليه من أى إدارة أمريكية سابقة، ويريد الحصول على اعتماد أمريكى لإسرائيل كقيادة إقليمية للشرق الأوسط، بكل ما يعنيه ذلك من إحداث توافق أمريكى إسرائيلى فى إدارة الشرق الأوسط وصراعاته وقواه المتنافسة. هذا يعنى أن نتنياهو لا يكتفى بما يروج له اليمين الإسرائيلى المتطرف من الحصول على «وثيقة ترامبية» مفعمة بالوعود المغرية لإسرائيل ومستقبل العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية بل يريد ما هو أكثر من الوعود أو الدعم المباشر لإسرائيل. هذه الوثيقة التى يروج لها اليمين المتطرف تعتمد أولاً على رسالة خاصة بعث بها دونالد ترامب عبر صحيفة «إسرائيل اليوم» المقربة من نتنياهو وحكومته ويمولها الملياردير اليهودى الأمريكى اليمينى شلدون أولسون بعث بها إلى عموم الإسرائيليين تقول «أحب واحترم إسرائيل ومواطنيها» واعتبرها «شعاع الأمل لأناس كثيرين»، وتعتمد ثانياً على تصريحات أدلى بها مستشارا ترامب للشئون الإسرائيلية ديفيد فريدمان وجيسون جرينيلات وكلها «وعود ترامبية» لإسرائيل من أبرزها أن الولاياتالمتحدة ستحافظ على المصالح الإسرائيلية، وأن إسرائيل تحتاج إلى حدود قابلة للدفاع عنها وتضمن السلام وتعزز الاستقرار الإقليمى ما يعنى عدم الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو 1967، كما أن الوثيقة تتحدث عن اعتراف أمريكى بالقدس كعاصمة موحدة للدولة اليهودية وغير قابلة للتقسيم، وتشمل أيضاً نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتطرح شروطا صعبة لقيام دولة فلسطينية. كل هذه الوعود المغرية لم تكف نتنياهو لتخوفه مما سبق أن أعلنه ترامب من عزمه على إبرام ما وصفه ب «الصفقة المستحيلة» لمصلحة البشرية جمعاء، ويعنى صفقة لحل ما يراه «نزاعاً إسرائيلياً- فلسطينياً» اعتبرها «الصفقة الأعظم». نتنياهو متوجس أيضاً من احتمالات للتقارب بين ترامب والرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الذى يعتبره حليفاً لإيران وبشار الأسد وحزب الله. من هنا جاء ميل نتنياهو للأخذ بنصائح عاموس يدلين رئيس معهد الأبحاث القومى الذى ينصح نتنياهو وحكومته بأن يركز فى أول لقاء له مع الرئيس الجديد على التوصل إلى تفاهم حول النقاط المهمة لإعادة العلاقات الخاصة وتعزيز التحالف الإستراتيجى بين البلدين والبحث فى الملفات المهمة خاصة ملف السياسة الإقليمية لإيران، وفى مقدمته الملف الإيراني- السوري، خصوصاً وأن ترامب يرغب فى علاقة جيدة مع الروس، وضرورة الاتفاق مع الإدارة الأمريكية الجديدة على مبدأ عدم منح الشرعية للمشروع النووى الإيراني، والعودة إلى التنسيق الاستخباراتى الكامل بين البلدين لكشف الخروق الإيرانية والاتفاق على قيام الولاياتالمتحدة بمنح إسرائيل كل القدرات العسكرية للعمل إذا تم استنفاد كل الوسائل الأخري. هكذا يفكر الإسرائيليون، فهم يرفضون توريطهم فى ما يعتبره ترامب «صفقة مستحيلة» مع الفلسطينيين، ولا يكتفون بدعم عسكرى واقتصادى وسياسى أمريكى مطلق فهم يحرصون على أن يكونوا كما وصفهم ترامب ب «شعاع الأمل» فى الشرق الأوسط بأن يكونوا قيادته ضمن مشروع تحالف أمريكى إسرائيلى جديد، فكيف يفكر العرب؟!! لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;