بسهولة شديدة تستطيع أن تضبط البوصلة على عبارة يكررها وزراؤنا بلا كلل ولا ملل، كلما لاحت فى الأفق نذر أزمة تمس مباشرة مأكل ومشرب وصحة المواطنين، وهى «أنها أزمات مفتعلة» وأن المخزون الاستراتيجى من هذه السلعة أو تلك يكفى استهلاكنا لثلاثة وربما لستة أشهر، وأنه لا داعى للانزعاج مطلقا. لقد خبرناها مع الأرز، والسكر، والبوتاجاز، ولبن الأطفال، والخبز، وجاء الدور على الأنسولين المدعم من فضلك راجع تصريحات وزير الصحة الأخيرة بشأن نقصه ، والأدوية المستوردة التى لا يستغنى عنها مرضى لا تحتمل أوجاعهم وآلامهم المبرحة مرارة ولهفة انتظار توافرها فى الصيدليات، ومستشفيات التأمين الصحي. وفى ظاهره يبدو اتفاق السادة الوزراء على الاحتماء خلف اسوار مقولة افتعال الأزمات أنه مسعى مريح وسريع لإبراء ذمتهم واخلاء ساحتهم من مسئولية حدوثها، وأن يدا خبيثة تعبث وتتآمر فى الظلام لتفجير الجبهة الداخلية، ولن نجادل كثيرًا فيما يخص نظرية المؤامرة الرائجة، اما الذى سنجادل فيه فهو أنه على وزرائنا الافاضل قبل أن يتكلموا عن الأيدى الخفية فليحدثونا أولا وبتجرد عن مدى مسئولية وزاراتهم، وما إذا كانت قد قامت بدورها المنتظر فى التقاط إشارات وبوادر أزمة نقص بعض السلع الغذائية والأدوية، وما اتخذته من إجراءات فورية وعاجلة لإحباط كيد ومخططات المتآمرين على قوت ودواء المصريين؟ ففى قصة الأنسولين لدينا روايتان، رواية وزارة الصحة التى يؤكد مسئولوها أنه متوافر، ويغمزون ويلمزون حول أن بعض الشركات تعمل على تعطيش السوق لرفع الأسعار، والثانية أصحاب الصيدليات والمرضى الذين يقسمون بأغلظ الأيمان أنه غير موجود، وأن حياة آلاف البشر من المصابين بالسكرى فى خطر محدق، وفى المعية تصرخ شركات الأدوية وتشكو مر الشكوى من عدم قدرتها على استيراد احتياجاتها من المواد الخام والأدوية نتيجة تذبذبات وتقلبات سعر صرف الدولار، مما يتسبب فى نقص حاد فى أدوية يستخدمها ملايين المصريين الذين أصابهم داء عضال، وبين هؤلاء وهؤلاء تضيع الحقيقة ولا ندرى مَن يقول الصدق ومَن يكذب، وتتجدد هذه الدورة مع اندلاع أزمة حياتية جديدة، وكأننا نشاهد الفيلم نفسه. عن نفسى كنت انتظر أن تحدد لنا بداية وزارة الصحة ما فعلته الهيئات والأجهزة التابعة لها لتطويق المشكلة، وما إذا كانت أوقعت عقوبات بحق من تتهمهم بتعطيش السوق لجنى أموال اكثر، أم أنها اكتفت بإبعاد التهمة عنها «وكفى الله المؤمنين القتال» «ويادار ما دخلك شر»؟ فى مثل هذه الحالات الكلام لابد أن يأتى مشفوعا بالفعل، ولا مجال للمدارة، فإن كانت وزارة الصحة أدت ما عليها على أكمل وأفضل وجه ولديها ما يعزز ويبرهن على أن شركات الأدوية الفلانية تفعل كذا وكذا، فلم لا تذكرها بالاسم، حتى يكون المواطن على بينة من الأمر، ويعرف على وجه الدقة مَن الواقف إلى جواره ويحميه، ومَن الذى يؤذيه ويضره، ولا يجب التذرع بأن فضحها سيضر الاقتصاد الوطنى الذى نعافر من أجل إنهاضه من كبوته الصعبة، فلا رحمة مع العابثين والمتاجرين بالسلع الحيوية فالضرب على أيديهم سيكون رسالة واضحة أنه لا عاصم من العقاب الأليم، وأن المصالح العامة تفوق ما عداها. ولعل أحداث وفصول الأزمات المتلاحقة التى تعرضنا لها خلال الأشهر الماضية تحتم تهيئة وإعداد الوزراء لمخاطبة الرأى العام بصورة لائقة تحترم العقول ولا تستخف بها، كالتحصن بمسألة أنها مفتعلة، وأن يتم تقنين الظهور الإعلامى للوزراء، لأن كثرة مداخلاتهم ولقاءاتهم بالفضائيات والصحف تأتى بأثر عكسى لما يقعون فيه من أخطاء وزلات لسان، ولنعد فقط للعام الماضى لنحسب عدد المسئولين والوزراء الذين استقالوا لسوء تقديراتهم لما يخرج من أفواههم أمام اغراء كاميرات الفضائيات. ولا ضير فى وجود مركز يتولى تأهيل الوزراء للقيام بمسئولياتهم، وتدريبهم على التحدث للرأى العام فى التوقيت المناسب، وأن يكون ظهورهم فى وسائل الإعلام بحساب، فكل وزارة تعين متحدثا باسمها يُعهد إليه بالرد على استفسارات وتساؤلات البرامج الفضائية والجرائد والمواقع الالكترونية، وبصريح العبارة فإن غواية الظهور الإعلامى تجعل الوزراء وكبار المسئولين مشغولين بصورتهم وتجميلها ظنا بأن ذلك سيطيل بقاءهم فى مناصبهم، وهنا يقل التركيز فى المهمة الأساسية ممثلة فى إعادة هيكلة مؤسساتهم، وصياغة خطط تقلل من مشكلاتنا وتشعرنا بأن تغييرا قد طرأ على حياتنا المنهكة، ونرجوكم رجاء حارا عدم تعليق كل شيء على شماعة الافتعال، وأن تركزوا فى عملكم. الغائب الحاضر فى الليلة الظلماء نفتقد البدر، والبدر الذى افتقدناه هو الأستاذ محمد عيسى الشرقاوى الكاتب الصحفى بالأهرام، الذى حلت ذكرى رحيله الثالثة يوم الحادى عشر من الشهر الحالي، بغيابه نفتقد قيما وافكارا ثمينة على الصعيدين المهنى والانساني، فهو من جيل كان يوقر الفكر، والعلم، والاجتهاد، والنشاط، والعمق فى الكتابة وفى تناول الأشياء وليس طريقة «التيك أوى» التى باتت متغلغلة ومسيطرة على غالبية الصحفيين والناس العاديين، كان من جيل يقدر أيما تقدير الكلمة المكتوبة، ويهابها ويحسب لها مليون حساب. وللتدليل على المعانى السابقة، لا سيما احترام الكلمة المكتوبة، لم اجد خيرًا من واقعة سرد تفاصيلها المفكر الكبير الدكتور جلال أمين فى كتابه «مكتوب على الجبين» الصادر حديثا حيث ذكر :«أن أستاذا فى جامعة جلاسجو البريطانية تتلمذت على يده زوجته الإنجليزية كان يصر أن يملى على طلابه المحاضرة كلمة بكلمة، فلما سألوه لماذا لا يطبع محاضرته ويوفر عليهم الجهد والمشقة والوقت؟ قال إنه يعرف جيدا ما تضفيه عملية الطباعة من قدسية على أى شيء مطبوع مهما تكن قلة أهميته، ومن ثم فهو يأمل أن يعاملوا النص الذى كتبوه بخط اليد المعاملة التى يستحقها» وهكذا كان يعتقد الأستاذ عيسى الذى كان يمنح ما يكتبه ما يستحقه من عناية ومتابعة، وظل يشعر حتى يومه الأخير أنه فى مرحلة التحصيل والمعرفة، وأنه لا يزال أمامه الكثير والكثير ليعرفه ويتعلمه، وساعده أن الجدية كانت فلسفة ومنهج حياة بالنسبة له. نعم تذبل الوردة لكن عطرها وشذاها لا يفارق الحواس. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقى