أنطاليا المدينة الساحرة ، هى درة السياحة فى عموم الاناضول ، تبدو هذه الأيام وكأنها ترتدى ثوبا ليس هو ثوبها، بيد أنها مغايرة ومختلفة مقارنة بأعوام سابقة، يكسوها غيوم وفى حلوق مواطنيها غصة وهم يرون منتجعاتها ، وقد خلت تقريبا من زوارها الأجانب. لكل هذا سعى القائمون على مهرجان المدينة السينمائى السنوى المعنون بالبرتقالة الذهبية، أن تشكل فعالياته بارقة ضوء تبدد المخاوف، وهكذا جاءت عروض الدورة الثالثة والخمسين بأيامها الثمانية، بمثابة رسالة للخارج مؤداها أن المدينة مؤمنة وآمنة ومستعدة لاستقبال من يأتى لها، ولم يكن فى الأمر مصادفة، دعوة أسماء شهيرة لتعطى انطباعا بإيجابية الأجواء وثرائها، كان فى مقدمتها الفرنسى جيرارد ديبارديو، والممثلة الأمريكية ذائعة الصيت آندى ماكدويل ،ولجنة تحكيم ترأسها الأنجليزى البارز هوجو هدسون . ولأن المعمورة تضج بالأزمات العاصفة والحروب العبثية فطبيعى أن ينعكس الحاصل على المنتج السينمائي، فجاءت شرائطه بمثابة معزوفات مأساوية محبطة تئن مفراداتها شجنا وهما فلا مكان للبهجة، فالأحزان متواصلة دون بريق لأمل. ولم يكن غريبا أن نشاهد فيلم «أمير كوستاريكا» On the Milky Road أو «عشق وحرب» وفق تسميته باللغة التركية، فعلى مدى ساعتين وربما أكثر قليلا اختلطت المشاهد بين الفانتازيا الكوميدية بالتراجيديا المأسوية تحكى فصلا من فصول الحروب الأهلية الشرشة فى يوجوسلافيا السابقة، من خلال واقعية سحرية وخلفيتها جغرافيا البلقان التى كانت تستعد أن تتفتح زهورها ، أنه باختصار فيلم عن الربيع فى زمن الحرب. صحيح توقفت شلالات الدم، لكن بلدان بحر الادرياتيك لم تشف بعد من تداعيات تمزقها وتناحر طوائفها وأثنياتها، وها هى صربيا المرشحة لنيل عضوية الاتحاد الاوروبى ينخر فيها الفساد والرشوة، وتكفى بضع أوراق من البنكنوت الأخضر ، لتفتح الحدود المغلقة، ولا يهم فى أن من يعبرونها ويطئون أراضيها يحملون وثائق او هويات تظهر شخصياتهم من عدمه، وهو ما كشف عنه الشريط السينمائى البلجيكى غياب ملك. من القارة العجوز تتجه ليالى المهرجان إلى كولومبيا البعيدة ، ومنها شاهد الجمهور تنويعتين رائعتين هما فى الحقيقة مأساتان إحداهما إنسانية، والثانية تتعلق بوطن يكاد تلتهمه الة الموت. ففى فيلم بين البحر والارض» وهو العمل الأول لمخرجه كارلوس ديل كاستيلو، تظهر لنا بلدة سانتا ماريا وهى صورة مصغرة لبلد يطحنه البؤس، أشباه بيوت وأكواخ فى الهواء الطلق تطفو على أسطح مستنقعات ضحلة، وهى ذاتها التى صورها جبرائيل جارسيا ماركيز فى روايته الخالدة الحب زمن الكوليرا بعشرينيات القرن المنصرم، أى أنه لا شىء تغير البتة. فى الوطن الكولومبى أيضا، وباستثناء عدة عبارات متناثرة نسمعها فى خلفية المشاهد سنكون مع الصمت، فقط لغة الكاميرا البليغة هى التى تحدثت وعبرت، أنه شريط Oscuro Animal إخراج وسيناريو فيليبى جيريرو فى عمله الروائى الأول، ويتمحور حول ثلاث نساء، لا يربطهن علاقة، لكن لكل واحدة منهن مأساة، يعشن فى مناطق ريفية بعيدة عن سلطة الدولة المركزية، يعانين من حكم فرض عليهن أنه قهر القوات شبه العسكرية المسلحة المتحصنة فى الغابات الكثيفة الخصبة، ولولا الحرب القذرة لكانت أشبه بالجنة الخضراء، لكنها باتت مرادفا للجحيم والفكاك منها معجزة ، وهو ما فعلته النساء الثلاث كى يصلن إلى ما يعتقدنه الأمان النسبى فى بوجوتا العاصمة التى لا تخلو من أمراض اجتماعية وأمنية مزمنة. نزولا إلى الجنوب حيث تشيلى يقدم المخرج التشيلى بابلو لاريان فيلمه نيرودا وهو ليس سيرة ذاتية لشاعرها الأشهر بابلو نيرودا، بل هو صورة أشمل لدولة كانت الاعتقالات السياسية عنوانها فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1948 أما المفارقة فى هذا الشريط فتمثلت فى تسليط الضوء سريعا على قائد أحد معسكرات الاعتقال أنه أجستو بيونشيه الذى سيقود انقلابا فى سبتمبر 1973 يطيح بالرئيس التشيلى سلفادورا الليندى وبعده بأقل من أسبوعين يموت بابلو نيرودا كمدا. من أمريكا اللاتينية إلى مناطق أخرى لا تقل ظلاما ورعبا، ففى شريط وثائقى أنتجته الدانمارك وأخرجته الإيرانية روخساره جهئيم ماجهامي، نتعرف على ا سونيتا ا الفتاة الأفغانية ذات الأربعة عشر عاما والتى تعيش فى طهران هربا، بعد أن تم عرضها للبيع كعروس منذ أن بلغت العاشرة من عمرها وفقا لشريعة طالبان، المثير فى الأمر هو أنها تحلم أن تكون مغنية بوب، ياله من خيال جامح ومجنون، فحتى الجمهورية الفارسية التى يقال إنها منفتحة نسبيا مقارنة بجارتها أفغانستان، تحظر على أى فتاة أن تغنى بمفردها، لكن سونيتا ستحصل على فيزا لأمريكا التى ستفتح لها الأبواب على مصراعيها. وقبل أن ينتهى المهرجان وفى ليلته الأخيرة، علت أصوات السينمائيين الاتراك يدقون ناقوس الخطر فصناعة السينما فى بلادهم تمر بمنعطف خطير نتيجة الأجواء السياسية التسلطية، الأمر الذى أثار حفيظة رئيس المهرجان الذى هو نفسه رئيس بلدية المدينة لأنه ببساطة من العدالة والتنمية الحاكم المتهم بدفع تركيا نحو الديكتاتورية .