(في القاهرة العاصمة القاصمة ستجد أنُاسا يتكلمون لغة أخرى ويلبسون ملابس أخرى.. أنت تشبههم فقط, بأن لك عينيك ولسانا وشفتين ,وتمشي على قدمين , وتجري أحيانا خلف الأتوبيس المزدحم , لكنك أبدا لست مثلهم .. ولن تكون , فالمسافة بينك وبينهم أبعد من حدود صعيدك بكثير , ورغم ذلك جئت تحمل حزنا طاغيا .. تنظر للعمارات والسيارات وزحام الشوارع ولا تفقه شيئا يا غريب) في روايته الجديدة (شيطان صغير عابر) لم يغادر محسن عبدالعزيز أجواءه الأثيرة , القرية بعوالمها وعلاقاتها وتشابكاتها الاجتماعية والإنسانية, القرية الصعيدية التي غادرها الكاتب منذ أعوام طوال ,لكنها لم تغادره, وما زالت تسكنه بكل تفاصيلها وشخوصها, لتشكل الرواية تتويجا للمجموعتين السابقتين للأديب (ولد عفريت تؤرقه البلاد) , و(مروة تقول إنها تحبني) اللتين أسستا لمشروعه الأدبي الذي يستمد روحه وعبقه من قريته الأولى المتأصلة فيه طبيعة وبشرا. حيث يأخذنا محسن عبدالعزيز في رحلة مع بطل روايته منذ طفولته الغضة في البيت , قبل سنوات المدرسة, حيث تمثل الأم بالنسبة له كل شىء .. الأمان .. الحب .. الملاذ .. الحضن الدفىء, ثم فجأة يفقد بطلنا كل ذلك دون سبب مقنع .. فقد ماتت أمه ولم يمتلك طفلنا القدرة على إيجاد سبب لموتها (أمي ماتت .. ولا أحد يقول لماذا؟ وما معنى أن تموت؟ , الموت في القرى شىء عادي وربما ليس له سبب). ثم تبدأ معاناته مع زوجة أب تكرهه لا لشىء إلا لكونه يناديها باسمها مجردا بعدما احتلت مكان أمه .. أو ربما كان هذا مبررها الظاهري لتمارس كراهيتها الفطرية لابن زوجها (قست علي كثيرا بعد أن تزوجت أختي التي تكبرني وذهب أخواي الكبيران إلى منزل جدتي وأقاما هناك .. كنت أتشبث بالبيت .. بيت أبي وأمي , وكانت تذيقني مرارات لا ينفع معها رمي الطوب على الأبواب , ولا الشتائم , وإذا عاتبها أحد على قسوتها تقول للناس من بين دموعها المستعارة : أنا لا أطلب منه إلا أن يناديني عمة أو خالة). بعدها يصحبنا الشيطان (الراوي) الصغير العابر إلى عالم المدرسة بشقاوتها ومدرسيها وخلافات التلاميذ واختلافاتهم .. صداقاتهم وعداواتهم , ثم ينتقل بنا إلى مرحلة أكبر قليلا حيث سنوات ماقبل الجامعة , والارتماء في أحضان الكتب , والحب البرئ , وملاعب الكرة , حيث يشكل فريق كرة القدم في مركز شباب القرية , ساحة مصغرة للحياة , حيث الموهوب وقليل الموهبة , العنيف .. والحريف , حارس المرمى .. والهداف , عالم كامل من الصراع المختلط بالإخلاص ,والحب ,والمكيدة ... بل وتخثر الأحلام تحت وطأة الواقع (بسرعة تبخرت أحلام مجدي في لعب الكرة لأحد الأندية الكبرى مثلما تبخرت أحلامنا جميعا في ذلك , مجدي كان الأقرب لهذا الحلم الذي لم يتحقق لأي منا .. ورغم ذلك ضاع منه أيضا). ولم ينس محسن عبد العزيز خلال رحلته مع شيطانه الصغير الآسر أن يعرج بنا على حالة القرية السياسية والدينية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات , حيث بداية الارتماء في حضن الحزب الحاكم من أجل تحقيق مصالح شخصية سريعة , وبداية ظهور المد السلفي , وظهور شيوخ جدد , بأفكار وطباع .. بل وأخلاق وملابس جديدة (كان صيفا أو شتاء لا أدري .. عندما حط في قريتنا مشايخ يرتدون ملابس بدت غريبة , جلباب أبيض قصير , تحته سروال قصير أيضا , يلفون بإحكام عمامة بيضاء حول رؤوسهم..). بعدها يواصل الراوي .. محسن عبدالعزيز .. الشيطان الصغير , لا أرى بين الثلاثة اختلافا كبيرا , فالتجربة الذاتية حاضرة بقوة عبر صفحات الرواية , صحيح أن للخيال دوره الواضح , لكن التجربة الذاتية تتجلى بوضوح , خصوصا بعد مغادرة الشيطان الصغير لقريته متجها للقاهرة , حيث يعاني الأمرين في سبيل وضع قدمه داخل بلاط صاحبة الجلالة. يتبقى بعد هذا السرد السريع لأجواء الرواية ملاحظات فنية يصعب إغفالها , لعل أبرزها تلك اللغة الإنسانية شديدة الرهافة والشفافية , لغة رقيقة حد الهمس , هامسة حد الألم (ومرت شمس ,ومر صباح ,ومر يوم ,وأسابيع وشهور , وأنت غارق في وحدتك , من حزن لحزن تسير , لا نجاح في الأفق يؤكد أن السماء موجودة , والأرض ممدودة بعد هذا الأسفلت القاسي الذي لا ينتهي) .. لغة تجاوز بها محسن عبدالعزيز إبداعاته السابقة بخطوات وخطوات , لغة لا تمتلك إزاءها إلا القشعريرة وانتصاب زغب اليد. الملمح الثاني هو استشعار القارئ في لحظات عديدة أن الرواية لم تفلت تماما من أسر القصة القصيرة , حيث تتابع الصور , قصيرة , متلاحقة , يحبس خلالها القارئ أنفاسه , حتى تكتمل الصورة أمامه عند اكتمال الرواية , فكل صورة أو لقطة هي قطعة موزاييك .. جميلة بذاتها , لكنها أكثر روعة حين تراها بجوار بقية القطع .. في اللوحة النهائية. الملمح الأخير الذي يصعب إغفاله هو الفصل المعنون (رافع بك) الذي يخرج كثيرا عن روح الرواية , سواء من حيث الحجم أو اللغة , وإن كان ذلك لا ينقص من قيمة الرواية التي تعد نقلة نوعية في مسيرة الكاتب , بمتعتها وبساطتها وشخوصها المحببة والقريبة التي نعرفها وتعرفنا , نقلة لا نملك إزاءها إلا أن ندعو محسن عبدالعزيز لمزيد من الإنتاج والإخلاص لمشروعه الأدبي , وأن نسأله بالجملة الافتتاحية في روايته : ( هذا الولد الشقي داخلك .. من علمه الأدب؟) .