يجلس سمير إلى «طشت الغسيل» رابطًا قميصه، مرتديًا «شورت»، كرشه الصغير يتدلى، ويلقى بالملابس فى الغسالة قطعة قطعة.. يسحب أنفاسًا من سيجارته بطريقة مضحكة، وفى الخلفية صوت عدوية يصدح «زحمة يادنيا زحمة».. تقف حماته وزوجته تضحكان على منظره بصوت عال، فيلقى بقطعة الملابس فى وجهيهما.. مشهد من فيلم «الشقة من حق الزوجة». يركب الشيخ الكفيف حسنى «فسبة» جاره سليمان الصائغ، ويصر على أن يقودها بنفسه دون مساعدة من أحد.. هو وحده مقتنع أنه يرى.. الشيخ حسنى يتحدث فى ميكروفون العزاء دون أن يدرى ويفضح كل أهل المنطقة.. كيف يمشى الشيخ الكفيف، وكيف يميل برقبته، وكيف يتجه بعينيه شاخصا ناحية النساء رغم أنه لا يرى.. مشاهد من فيلم «الكيت كات». الدكتور عادل الطبيب النفسى المهزوز والذى يصدم بحقيقة والده فى فيلم «العار»، وهو يقول جملته الشهيرة: فوزية يا جمال رجليكى يا فوزية، في فيلم «السادة الرجال»، وجملته الاكثر شهرة فى «جرى الوحوش»: القرد بيتنطط ولا بطل تنطيط، ودور الضابط فى فيلم البرىء، وهو ذلك الشخص اللطيف فى منزله والمحب لعائلته والذى يعانى ضعفًا جنسيًا، إلا أنه بمجرد أن يدخل معسكر الأمن المركزى الذى هو قائده، يتحول إلى وحش لا يعرف شيئًا عن الإنسانية.. هذه بعض من مشاهد فى أفلام كثيرة للنجم الكبير محمود عبد العزيز رسخت في وجدان المصريين من أجيال متعاقبة.. كثيرة هى الشخصيات التى نسجها محمود عبد العزيز بروح خالصة لا تخلو من الإبداع، فالنجم المتفرد فى مشواره الفنى صاحب الأدوار المتعددة والمتنوعة والمتباينة، لم يكرر دورًا واحدًا فى مشواره، ليس ذلك فقط بل هو من الفنانين القلائل الذين تجدهم يضعون بصماتهم الخاصة على كل شخصية يقدمونها، بل يصنعون لها لازمة تجعل المشاهد يستدعيها طوال الوقت. محمود عبد العزيز ابن حى الورديان فى محافظة الإسكندرية والمولود فى الرابع من يونيو 1946، عرف منذ البدايات أن الطريق سيكون صعبًا، ولن يكون مفروشًا بالورود رغم وسامته التى فتحت له أبواب النجومية والشهرة، عندما بدأ أولى خطواته مع المخرج المخضرم نور الدمرداش فى مسلسل «الدوامة» أمام محمود ياسين ونيللى، وبعدها توالت الأدوار، إلى أن شاهده المنتج الكبير رمسيس نجيب وقدمه فى السينما فى دور البطولة أمام نجوى إبراهيم فى فيلم «حتى آخر العمر».. وكان من السهل على محمود أن يستسلم لفكرة الوسامة ليقدم أدوارًا شديدة الخفة، لكنه أدرك ان أهم شىء هو التغيير، لذلك كان يختار الأدوار والمخرجين الذين يعمل معهم، بدءًا من المخرج على عبد الخالق فى أفلام (العار، والكيف، وإعدام ميت)، وداود عبد السيد فى فيلمى (الصعاليك، والكيت كات)، وعلى بدرخان فى فيلم «شفيقة ومتولى»، وعاطف الطيب فى فيلمى (البرىء، والدنيا على جناح يمامة)، والمخرج عمر عبد العزيز فى «الشقة من حق الزوجة»، ومحمد كامل القليوبى فى «البحر بيضحك ليه»، ورضوان الكاشف فى «الساحر.. نظرية البهجة»، وسمير سيف فى «سوق المتعة». أما تجربته مع المخرج الراحل رأفت الميهى، فهى تجربة شديدة الخصوصية لا يوجد ما يشبهها فى السينما المصرية.. محمود عبدالعزيز طوال مشواره الفنى يحرص على إدهاش المتلقى فهو حقيقة صانع الدهشة والبهجة مع كل شخصية يقدمها ويملك القدرة على أن يجعل المتلقى يتساءل حول الدور خصوصًا وأنه فى كل مرة يشاهد فيها دورًا لمحمود عبدالعزيز سواء فى السينما أو التليفزيون سيكتشف تفصيلة جديدة صاغها محمود فى الأداء، فهو ينغمس فى الشخصية إلى درجة مذهلة تجعلنا ننسى تمامًا أنه محمود عبد العزيز بأداء سهل ممتنع قريب لقلوب الجميع غير أنه مستحيل التقليد. مثلا فى مسلسله المتميز «رأفت الهجان» الذى بات من كلاسيكيات الدراما التلفزيونية، ستجد محمود يرسم حالة من الأداء نادرًا ما تتكرر _( راجع المشاهد التى جمعته بشقيقته شريفة جسدتها عفاف شعيب، ومشهد رقصه واحتفاله فى إسرائيل بنكسة مصر، وعلاقته بإستر بولانسكى جسدتها إيمان الطوخى). صاحب الأداء الفريد والأدوار التى لم تتكرر تلك الحالة من الأداء الفريد زادها الحضور القوى وموهبته الخلاقة، وفى ظنى أن النظر فى مسيرة محمود عبد العزيز هو شىء ملهم للغاية.. خصوصا لمحبى التمثيل فموهبة الرجل وحضوره بل ونشاطه ازدادا بريقا، وزادته تجاربه العديدة ثقلاً وبهاءً، وإن كان قد اختار بإرادته الابتعاد بين حين وآخر، فإن عودته دائما تؤكد أنه يدرك ما يفعل، حيث كان من الطبيعى فى مشوار محمود أن يغيب لفترات طويلة قد تصل لسنوات، إلا أنه عندما يعود إلى التمثيل سواء بعمل تليفزيونى أو سينمائى، دائمًا ما يثير الدهشة بتميزه. ويكمن سر نجاح محمود عبد العزيز فى الصدق، فإذا لم يكن العمل كله مترابطاً لن يصدقه الناس، حيث قال فى تصريحات صحفية: «أنت كفنان تحاول أن تصل بإحساسك للناس بأن ما تقدمه شىء حقيقى»، يقول إنه تعلم هذا من أستاذه نور الدمرداش، الذى يتذكره دائماً بين الوقت والآخر، فهو من منحه سر النجاح والاستمرار، مرتكزاً على صدق ما يقدمه.. وهذا ما يدفعه للتفكير فى كل تفصيلة تتعلق بأى شخصية يقدمها، وعن كيفية صياغته لتفاصيل الشخصيات التى يقدمها قال الساحر فى تصريحات صحفية: «التفاصيل هى أهم شىء يصنعه الممثل والبحث عن مفتاح للشخصية هو ما يساعده على تحويلها للحم ودم، وأذكر أننى عندما بدأت التفكير فى شكل الشخصية التى لعبتها فى فيلم «الشياطين» مع المخرج حسام الدين مصطفى، كانت شخصية انتحارية وكان شبه ملحد، أول شىء اشتريت له قماش بدلة قديمة ثمن المتر فيه 84 قرشاً وقلت لنفسى طالما هى شخصية انتحارية فلن ترتدى بدلة أنيقة، وجعلت الترزى يفصل بدلة على الطراز القديم باللون الرمادى، وخطوط مظلمة ووضعت نظارة نظر كبيرة الحجم على وجهى، واقترحت على المخرج حسام الدين مصطفى وضع صور لغاندى وبوذا فى خلفية المكتب الذى تجلس فيه الشخصية، وتفاصيل أخرى لم تظهر فى الصورة، للأسف وأيضا حينما كانت الشخصية أثناء مشيها تشوط الأرض بقدمها وتحديدا الحجارة الصغيرة، جعلته دائم التوهان وهادئاً بلا انفعال، ولا يصفف شعره ولا يوجد له فورمة معينة والهواء يحركه، ورغم أننى لا أعرف شادى عبدالسلام إلا أنه أعطانى جائزة أفضل ممثل فى أحد المهرجانات وقال للجنة التحكيم: «لو لم يحصل محمود عبدالعزيز على هذه الجائزة سأستقيل من التحكيم»، وأضاف: «هذا الدور يجب أن يدرس فى معهد الفنون المسرحية والسينما». لم يكتف محمود بتقديم أدوار هامة ومختلفة ولكنه أيضا برع فى تأدية الأغانى فى أفلامه بل أن بعض أغانيه حطمت أرقامًا قياسية وصنعت له شعبية كبيرة تضاف إلى شعبيته العريضة، واعتدنا مع أعمال محمود عبد العزيز أن تظل أغنية الفيلم عالقة فى الأذهان والقلوب لسنوات بعدها وأمثلة ذلك كثيرة مثل «الكيميا» و«القلب منك مليان جفا» وكذلك «تعالى تانى» فى «الكيف» و«الهاشاباشاتاكا» في «سوق المتعة» وأيضا في فيلم «الجنتل». من السينما إلى الدراما.. إبداع لا ينقطع تمامًا مثلما قدم محمود عبدالعزيز فى السينما ما يزيد عن 80 فيلمًا سينمائيًا، إلا أنه لم يبتعد على التليفون نهائياً وحاول التواجد فيه ولكن ظهوره كان دائما على فترات، حيث لم يتخط مشواره فى الدراما التليفزيونية الثمانية مسلسلات فقط، إلا أن بعضها صار من الكلاسيكيات فى الدراما العربية ومن الأعمال البارزة التى يتذكرها الجمهور دوماً. وكان أول أدواره فى مسلسل يحمل عنوان «الدوامة» تأليف إبراهيم الوردانى وسيناريو وحوار شريف المنباوى، وقام ببطولته محمود ياسين ونيللى وهياتم ونادية الجندى ويوسف فخر الدين وإخراج نور الدمرداش، وكان عبد العزيز وجه جديد فى هذا التوقيت، ولم يمكث أكثر من ثلاث سنوات وقدم مسلسلا من بطولته وهو «شجرة اللبلاب» عام 1976، للروائى المصرى الراحل محمد عبد الحليم عبد الله وكتب السيناريو والحوار محمد عبد الرحمن، وكان عبارة عن 13 حلقة تم تصويرهم فى تليفزيون دبى وهو من إنتاج مؤسسة الخليج للأعمال الفنية فى دبى تليفزيون دبى. وانقطع محمود عبد العزيز عن التليفزيون لمدة 11 عاماً صب كل تركيزه على السينما إلى أن عاد عام 1987، بمسلسل «رأفت الهجان» تأليف صالح مرسى، وإخراج يحيى العلمى، ويعد نقطة فارقة فى مشوار «الساحر» بالدراما التليفزيونية، لا سيما وأن هذا العمل يعتبر الأبرز فى الأعمال التى تناولت ملفا من ملفات المخابرات المصرية من خلال شخصية رفعت على سليمان الجمال، الذى تم زرعه داخل المجتمع الإسرائيلى للتجسس لصالح المخابرات المصرية، وبعدها قدم منه جزءين آخرين عامى 1990، و 1992 على الترتيب. وفى عام 1988 قام عبد العزيز ببطولة مسلسل «البشاير» الذى كتبه وحيد حامد وأخرجه سمير سيف وشاركه البطولة مديحة كامل وسناء يونس وأمينة رزق، وتدور أحداثه حول، رجل مكافح يعود من الخارج لتنفيذ مشروع زراعى فى قريته، ينقذ فنانة من حادث قريب من مزرعته ويقع فى غرامها. وغاب عبد العزيز 12 عاماً عن التليفزيون إلى أن عاد عام 2004 بمسلسل «محمود المصرى» الذى حقق نجاحاً كبيراً، وشارك فى بطولته غادة عبد الرازق، وسمية الخشاب، ومى عز الدين، وأحمد خليل، وهشام سليم، وحنان مطاوع، وشريف سلامة، ومحمد نجاتى، ومادلين طبر وهو من تأليف مدحت العدل وإخراج مجدى أبو عميرة. وبعدها ب8 سنوات قدم محمود عبد العزيز مسلسل «باب الخلق» عام 2012 تأليف محمد سليمان عبد المالك، وإخراج عادل أديب وشارك فى بطولته دينا، وسوزان نجم الدين، وأحمد فلوكس، ومنة فضالى، وعبير صبرى، وفى عام 2014 قام ببطولة مسلسل «جبل الحلال» تأليف ناصر عبد الرحمن وإخراج عادل أديب وشارك فى بطولته وفاء عامر، ونرمين الفقى، وكريم محمود عبد العزيز، وخالد سليم، ومى سليم، وفى عام 2016 قدم عبد العزيز آخر مسلسلاته وهو «رأس الغول» بمشاركة لقاء الخميسى، وميرفت أمين وفاروق الفيشاوى وإخراج أحمد سمير فرج وتأليف وائل حمدى وشريف بدر الدين.