فى نهاية مقالنا الماضى «الزمن العالمى من التنمية إلى العولمة» قرننا أنه يمكن القول دون أدنى مبالغة أن الأزمة الاقتصادية التى ضربت الاقتصاد الأمريكى وأثرت على الاقتصاد العالمى كانت مؤشرا على نهاية عصر العولمة، والسؤال هو ما هى سمات ما بعد العولمة, وذكرنا أن الإجابة قد تكون هى بداية عصر الاضطراب العالمى. وهذه الإجابة تحتاج فى الواقع إلى تأمل نقدى لأن الحديث عن عصر العولمة وانتهائه وبداية عصر الاضطراب العالمى قد يغفل تطورات بالغة الأهمية حدثت فى بنية النظام العالمى، وانتقلت به من حالة التوازن إلى حالة الاضطراب مما مهد الطريق من بعد من خلال تفاعلات معقدة دولية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية إلى تبلور ملامح عصر الاضطراب العالمى. ونقصد بهذه التطورات الخطيرة أهم حدث عالمى وقع فى أواخر القرن العشرين ونعنى انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفيتى، وقد تعمدنا استخدام مصطلح الإمبراطورية لأنها تشمل القلب وهو دولة الاتحاد السوفيتى، بالإضافة إلى الأطراف والتى تتمثل فى دول أوروبا الشرقية التى طبقت النظام الشيوعى وأصبحت رقما بالغ الأهمية فى الصراع الضارى الذى دار طوال القرن العشرين بين الشيوعية بعد نجاح الثورة البلشفية فى روسيا عام 1917 والرأسمالية التى تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويمكن القول إن هذا الصراع اكتسب صفة التوازن- برغم مفارقة الفرق الجوهرى المفهومى بين «الصراع» و«التوازن» فى النظرية السياسية والاجتماعية- بحكم توازن الرعب النووى. غير أن انهيار الاتحاد السوفيتى وتمزق إمبراطوريته أدى فى الواقع إلى تطور نوعى فى بنية النظام العالمى وهو الانتقال من «ثنائية القطبين» المتصارعين إلى «أحادية القطب» بمعنى هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية على مجمل النظام الدولى وتحولها بالفعل إلى إمبراطورية تحتكر إصدار قرارات الحرب والسلم وتفرضها فرضا على المجتمع الدولى كما فعلت فى حربها الإجرامية التى شنتها على العراق بالرغم من اعتراض الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن. وهكذا يمكن القول اجتهادا إن عصر الاضطراب العالمى بدأ فى الواقع بواقعة انهيار الاتحاد السوفيتى وهذا عامل سياسى بالغ الأهمية، أعقبه عامل اقتصادى خطير هو الأزمة الاقتصادية الكبرى التى ضربت الاقتصاد الأمريكى عام 8002 وأدت إلى سقوط النموذج الرأسمالى الكلاسيكى الذى يحرم تدخل الدولة فى الاقتصاد بعد اضطرار الرئيس الأمريكى «أوباما» إلى ضخ مئات التريليونات من الدولارات لإنقاذ الدولة الأمريكية من الإفلاس. غير أنه بالإضافة إلى هذين العاملين السياسى والاقتصادى بدأ تأثير صراع ثقافى بالغ الحدة عبر عنه بدقة عالم السياسة الأمريكى الشهير «صمويل هنتنجتون» -والذى نشر مقالة بعنوان «صراع الحضارات» - تنبأ فيها بأن الصراع الدولى سيأخذ شكل الصراع الثقافى بين الحضارة الغربية من ناحية والحضارة الإسلامية من ناحية أخرى بالإضافة إلى الحضارة الكونفشيوسية. ولعل «هنتنجتون» كان يشير من طرف خفى إلى تصاعد تيار الجهادية الإسلامية لأسباب متعددة، خصوصا بعد أحداث سبتمبر التى ضربت معاقل القوة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتحول «الإرهاب الإسلامى» إلى خطر داهم على الحضارة الغربية ذاتها، أما إشارته إلى الصراع بين الحضارة الغربية والحضارة الكونفشيوسية فكانت أشبه بإنذار سياسى مبكر عن مخاطر صعود الصين اقتصاديا وسياسيا وعالميا وبالتالى نشر ثقافتها الكونفشيوسية فى العالم. وبالإضافة إلى الأسباب السياسية والاقتصادية والثقافية والتى كانت أشبه بعملية التحضير لحقبة الاضطراب العالمى يمكن أن تضاف أسباب أخرى لعل أهمها فقدان الدولة خصوصا فى العالم الغربى لمصداقيتها بعد أن زادت الفجوة بين النخبة المتحكمة سياسيا واقتصاديا والجماهير نتيجة احتكارها للسياسة وللثروة معا، بعد تصاعد ظاهرة اللا مساواة التى رصدها بدقة علمية بالغة عالم الاقتصاد الفرنسى الشهير «توماس بيكيتى» فى كتابه الشهير «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين». وإذا أضفنا إلى ذلك روح التمرد التى سادت العالم بين أجيال الشباب بحكم اختلاف رؤيتهم للعالم اختلافا عميقا عن رؤى العالم لدى الأجيال الأكثر سنا لأدركنا أن اللوحة الكاملة للخطوط العريضة لعصر الاضطراب العالمى قد اكتملت! ولعل ما يحدث فى سوريا على وجه الخصوص أبرز دليل على الخصائص الفارقة لعصر الاضطراب العالمى والتى تجعله يختلف نوعيا عن عصر التوازن العالمى الذى سقط بانهيار الاتحاد السوفيتى، وذلك لأن ما يحدث فى سوريا ليس إلا صورة مكبرة لمظاهر الاضطراب العالمى. وفى سوريا التى بدأت فيها -بحكم مناخ ثورات الربيع العربى- حركات معارضة محتجة على استبداد النظام السورى الذى يقوده «بشار الأسد»-مما أدى إلى صراع سياسى بالغ الحدة بين المعارضة والنظام- سرعان ما تعقد هذا الصراع بصورة ربما لم تشهده صراعات القرن العشرين من قبل. فبالتدريج أصبحت سوريا مسرحا للصراع بين الولاياتالمتحدةالأمريكية من جانب والتى أعلنت انسحابها من ساحات الصراع وتفضيلها الصراع بالوكالة عن طريق حلفاء لها أو عملاء وبين الاتحاد السوفيتى الذى دخل ساحة الصراع فجأة وأصبح لاعبا رئيسيا فيه، واكتشفنا أن الاتحاد السوفيتى يريد أن تكون له قواعد عسكرية متطورة فى سوريا لكى يفرض وجوده العسكرى فى الشرق الأوسط. ولدينا -بالإضافة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا- فرنسا التى تمارس دورا مترددا وكذلك دول أوربية أخرى. غير أن أخطر أطراف الصراع هى الحركات الجهادية الإسلامية التى تلقى تأييدا شديدا من دول عربية. والواقع أن تعتمد فى الصراع أو لم تشارك عملية بالغة الصعوبة نتيجة التغير الدائم فى مواقف أطراف الصراع وحاجة صانع القرار فى كل بلد إلى اتخاذ مواقف سريعة متفقة مع التغيرات على الأرض مما يجعله يقع فى التناقض أحيانا، بحيث يؤيد طرفا ما فى لحظة ثم ينقلب عليه فى لحظة أخرى، مما يكشف عن حالة «الاضطراب» الذى نعيشه فى النظام العالمى الآن. غير أنه يمكن القول إنه بالرغم من أن الصراع الدولى بين القوى الكبرى بالغ الخطورة إلا أن أهم عامل برز فيه هو خطورة الجماعات الإرهابية الإسلامية وفى مقدمتها «داعش» نتيجة تمدد الإرهاب فى العالم. من هنا يمكن القول إن لوحة عصر الاضطراب العالمى بالغة التعقيد، وينبغى للحديث عنها التعمق فى فهم أبعاد ثلاثة أبرزها الصراع الحضارى، وانهيار الدول، وتفكك المجتمعات. لمزيد من مقالات السيد يسين