أنا من الناس الذين يعشقون الورق ، أعشق ملمسه ورائحته وبالطبع الحكايات التي يحكيها ، أنا من الجيل القديم الذي لا يمل من تصفح الجرائد في نسختها الورقية ولا يتأذي من لون الحبر الكالح السواد الذي ينطبع علي الأصابع ولا يخرج إلا ( بغسلة محترمة بالماء والصابون وإن كانت غالباً مؤجلة لحين الإنتهاء من القراءة وإلتهام صفحات الجرائد والوثائق القديمة ) ، أنا من الكائنات التي أوشكت علي الإنقراض لإنها تمسك الورق بقدسية ، وتتعامل معه بلطف ورقة ورقة ، وتُحصي عدد سطور كل صفحة قبل أن تبدأ القراءة وكأنها تستحلفها ألا تنتهي وتشعر بالحزن عند الإنتهاء من قراءة أخر سطر .. هذه المقدمة الغريبة كانت ضرورية عزيزي القارئ لتشعر بإحساس الفخر الذي شعُرت به وأنا أمسك بين أصابعي الوثيقة التي سوف أعرضها هذا الأسبوع فهي ورقة مثيرة وخطيرة ومُشرفة ولذا تستلزم طريقة عرض جديدة تتناسب مع أهميتها وخطورتها .. وثيقة عمرها يرجع لإكثر من 125 عاماً ولكنها تُعطي درساً في الوطنية فهي ذات بُعد إقتصادى ووطنى خطير وهى عبارة عن منشور مُرسل من نظارة المالية للجهات المعنية فى نظارة الأشغال العمومية بتاريخ 31 مايو 1891 - عهد الخديو توفيق - وبإمضاء عبد الرحمن باشا رشدى ناظر المالية بشأن قبول العملة الذهب المصرية فى خزائن الحكومة فيقول المنشور : بخصوص التعليمات الصادرة من نظارة المالية بشأن قبول العملة الذهب المصرية بخزائن الحكومة ، نستلفت نظركم الى التعليمات التى تضمنها منشور 8 أكتوبر 1890 على التأكيدات السابق صدورها الى صيارف ( صرافى ) الخزن وصيارف البلاد لم يقصد بها الا تنبيه المذكورين الى وجوب إتخاذ الإحتياطات اللازمة التى تقيهم من قبول العملة البرانية والمغشوشة فى التسديدات التى ترد اليهم ، ولكن بقدر ما يجب أن يكون هؤلاء المأمورون دقيقين فى قبول العملة الذى يظهر لهم جلياً أنها برانية أو مغشوشة بقدر ما يلزمهم بنوع عمومى أن يجعلوا تسهيلات كلية لقبول الجنية المصرى بين العامة وإذا سلكوا بعكس ذلك فيكونوا أضروا جداً فى حركة الأشغال التجارية والأشغال الخصوصية وسببوا بذلك نقصاً فى سعر الجنية ، بناء عليه يقتضى أن تصدروا الى صيارف الخزن وصيارف البلاد الموجودين تحت إدارتكم التعليمات والتأكيدات القاطعة فى هذا الخصوص لمنع التشكيكات الواردة للمالية من كل جهة بشأن الإرتباك الحاصل فى تبادل العملة الذهب المصرية. ومن هذه الوثيقة نتبين أن الحكومة فى عهد الخديو توفيق إبن الخديو إسماعيل و سادس حكام الأسرة العلوية أدركت أهمية أن يكون لمصر عُملتها الخاصة وأن تكون هذه العُملة قوية ومحترمة ولذا سعت بشدة ليحل الجنيه المصرى الذهبى محل العملات الإجنبية التي كانت منتشرة فى مصر فى ذلك الوقت أو على الاقل ليأخذ مكاناً لائقاً بينهم ، حيث كانت مصر تضم على أرضها عدداً كبيراً من الجاليات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية وتركية وأرمينية وغيرها وكانت كل جالية تتعامل بعملة دولتها ، فكان قرار الحكومة المصرية بدعوة الناس لإستخدام الجنيه المصرى الذهبى مما من شأنه رفع الاقتصاد المصرى مع التنبيه على العاملين بالمجال الاقتصادى وفى خزائن الحكومة بتوخى الحذر من العملات المغشوشة التى كانت منتشرة فى ذلك الوقت بخلط المعادن الرخيصة بالذهب. وللجنيه الذهبى المصرى حكاية يحكيها الدكتور أشرف رضا فى كتابه «فنون مصرية على العملات الورقية» فيقول إن البداية كانت حينما أصدر محمد على باشا فرمانا عام 1806 حدد فيه النقود المتداولة والمعترف بها قانونا وهى «زر المحبوب ونصف زر المحبوب - وهى عملات كانت موجودة أساساً منذ أيام المماليك - والعملات الفضية والنحاسية»، إلا أن مصر ظلت دون وحدة نقدية محددة حتى عام 1834، حينما أصدر فرمانا جديدا يقضى بإصدار عملة مصرية تستخدم «المعدنين الذهب والفضة» يكون لكل منهما قوة غير محدودة، فكانت وحدة النقود قطعة ذهبية قيمتها 20 قرشا اسمها «الريال الذهبى» وقطعة من الفضة ذات 20 قرشا أيضاً تسمى «الريال الفضة»... إلى أن صدرت أولى العملات المصرية عام 1836، وكانت فئاتها كالتالى: «الذهب 100 قرش - 50 قرشا - 20 قرشا - 10 قروش»، والفضة «20 قرشا - 10 قروش - 5 قروش - 2 قرش»، ونيكل وبرونز «10 بارات - 5 بارات - 1 بارة». وكانت التجارة الخارجية تتجه بمصر إلى أن تتبع معظم تعاملاتها قاعدة الذهب خاصة مع إنجلترا، ومن ثم حدث عزوف تدريجى عن قبول الفضة كأساس نقدى فى التعاملات المالية، وبعد مرور 30 عاما على هذا الفرمان صدر قانون الإصلاح النقدى فى عهدى الخديو سعيد باشا وإسماعيل باشا ليصدر قانون العملة الموحدة عام 1885 وهى الجنيه المصرى الذهبى ، وفى الوقت الذى أجازت فيه الحكومة الجنيه الذهبى كوحدة نقدية موحدة، أجازت استمرار التداول بالعملات الذهبية الأخرى كالجنيه الإسترلينى والبنتو الفرنسى والجنيه التركى لعدم كفاية المسكوك من الجنيه الذهبى المصرى على أن يتوقف التداول بها كلها عندما تبلغ المسكوكات من الجنيهات المصرية الذهبية مقدارا كافيا. والحقيقة أنني وجدت في هذه الوثيقة القديمة أبلغ رد علي من يشككون في قيمة الجنية المصري ويتمنون نهايته وخاصة بعد التلاعب الفظيع الذي يحدث وبشكل متآمر من بعض الخونة لرفع سعر بيع العملات الأجنبية وعمل سوق موازية للإضرار بشكل عمدي بالجنية المصري ، فقدمت لي هذه الوثيقة الدليل الأكيد علي أن حب الأوطان ورفعة شأنها لا يكون إلا بالجد والعمل والإصرار علي النجاح ، فقديماً قام ملوكنا بإصدار الجنيه الذهبي المصري ودعمه ومساندته حتي تمكن من منافسة العملات الأجنبية والتفوق عليها والوقوف أمامها بمنتهي الندية لتدور الأيام والسنون ويأتي الأحفاد بمعاولهم لهدم الجنية المصري ولهدم ما فعله أجدادهم ولكن الشئ المؤكد أن أن مصر وعملتها ستظل باقية عالية بفضل الشرفاء في هذا الوطن .. والله علي مصر زمان والآن .