سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
السنيورة فى كلمته أمام الملتقى:مصر بدون العرب قوة محلية.. ومع العرب قوة إقليمية ودولية.. الأهرام حافظت على مكانتها كأشهر صحيفة عربية على الإطلاق رغم تقلب الأحوال والأحداث
أودّ بداية أن أعبّر عن سرورى الكبير لدعوتى إلى هذا اللقاء الذى تنظمه الأهرام بالتنسيق مع جمعية الصداقة المصرية اللبنانية لرجال الأعمال. أما جمعية الصداقة فقد خبرتُ نشاطها فى مناسباتٍ عديدة، خلال زياراتى إلى القاهرة، أو فى مناسبات أُقيمت فى بيروت. وإننى أثمّن للجمعية مشاركتها فى الإعداد والتحضير لهذا الملتقي، فعالم الأعمال لا ينفصل عن عالم الثقافة وعالم السياسة وكذلك حين يتعلّق الأمر بالعلاقات بين دولتين شقيقتين. أما صحيفة الأهرام التى أسسها اللبنانيان الشقيقان بشارة وسليم تقلا عام 1875، والتى لم تنقطع عن الصدور منذ ذلك الوقت، فهى الأجدر بإحياء هذا الملتقي، فقد صدرت الأهرام فى تلك الآونة التى شهدت فيها مصر توافُدَ اللبنانيين ومشاركتَهم فى إصدار الصحف والمجلات وتأسيسِ المطابع والمشاركةِ فى جميع أوجه الحياة الفكرية والثقافية والأدبية والاقتصادية، فى مصر. وقد حافظت الأهرام على مكانتها رغم تقلُّب الأحوال وتواتُر الأحداث، حتى أصبحت أشهر صحيفةٍ عربيةٍ على الإطلاق، وخصوصاً فى ذلك الزمن من ستينيات القرن الماضي، حين أخذت على عاتقها الاهتمامَ بالشأن العربى العام والحياة الوطنية العربية. وكنت حينها لا أزال على مقاعد الدراسة، حيث كانت الأهرام تشكلُ بالنسبة لى ولأقرانى بوصلةً تسهم فى توجيه أفكارنا وتعميق وعينا العربى والوطني. ومن دواعى سرورى أن أُدْعى إلى ملتقى ثقافي، لكنه معنيٌّ بالثقافة السياسية، أو بالتضافر السياسى والثقافى فى صناعة الأحداث، والعلاقات بين الدول والمجالات الحضارية. وكما تعلمون، فإنه فى حالنا الراهنة، صارت الثقافة شأنا ملحا لما نشهده من تدهور فى الوعى الوطنى والقومى والإنسانى المؤثّر فى السياسات، وبالتالى التدهور فى القدرة والرؤية الواضحة والإرادة المصممة والمثابرة على صناعة الحاضر والمستقبل. فهناك تعثرٌ فى مواكبة العصر وتعثرٌ فى التعليم و مستوياته ونوعية مخرجاته، وتعثرٌ فى التنمية ومكافحة الفقر، وازديادٌ فى حدة الفروق فى المجتمعات العربية وبين الدول العربية فيما بينها، وتراجعٌ فى التضامن والتضافر القومى واستنكافٌ عن التعاون والتكامل فيما بين الدول العربية، وعودةٌ إلى سياسات المحاور والعصبيات وردود الأفعال، وانخذالٌ وتفرق فى مواجهة التدخلات الأجنبية فى الشأن العربي، وانتشار التيارات المتشددة والمتطرفة التى تدّعى الإسلام والتى تهشّمُ ديننا وثقافتنا وعيشَنا المشترك، وعلاقاتِنا بالعالم. من هنا تأتى أهميةُ هذا الملتقى فى هذه الظروف الدقيقة والحرجة، التى تمرّ بها أمتنا العربية. وتتضاعف أهميةُ اللقاء كونَهُ لبنانياً مصرياً، فهذان البلدان شكَّلا معا مهدَ النهضة العربية الحديثة. فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، عرفت مصرُ أولَ تجربةِ تحديثٍ شَمَلَت الصناعةَ والزراعةَ والتعليمَ وبناءَ جيشٍ نظامي، كما عرفت النشرَ الجديدَ، والطباعةَ والترجمة. وفى الوقت نفسه شهد لبنانُ ظهورَ المدارس الإرسالية والوطنية على السواء، وإنشاء الجمعيات، وهو الأمرُ الذى أدّى إلى نشوء فئة جديدة من المتعلمين تعليما حديثا، والعارفين باللغات الأجنبية والقديمة، فضلاً عن إتْقان العربية الفصحى الكلاسيكية، ومحاولة تطوير لغة عربية حديثة تستوعب فكر وحضارة العصر. وقد ضاقت مساحة لبنان بخبراتهم، فضلاً عن القيود التى كانت تفرضها السلطة العثمانية آنذاك، فوجدوا فى الهجرة إلى مصر ملاذاً للتعبير عن تطلعاتهم العصرية. وكانت مصر فى تلك المرحلة تضج بمشاريع الخديو اسماعيل التحديثية فى كل المجالات. فوجد هؤلاء اللبنانيون فى مصر مجالاً رحباً لتحقيق طموحاتهم فى إنشاء الصحف وتأسيس دور النشر والإسهام فى نهضة المسرح، والحياة الثقافية. كان دَورُ اللبنانيين فى مصر يتجاوزُ إنشاءَ الصحيفة والمطبعة وإثراء الحياة الفكرية والأدبية. فالتفاعُلُ بين اللبنانيين والمصريين فى الرُبْع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أوجد الخطوطَ العريضةَ لما يمكن أن نسمِّيَهُ ثقافةً عربيةً حديثة، إنْ فى الفكر والآداب أو العلوم أو فى المسرح والسينما والموسيقى وسائر الفنون لاحقاً. وأصبحت جامعةُ القاهرة بعد تأسيسها عام 1908، جامعةَ العرب يتوافدُ إليها الطلابُ من العراقوسورياولبنان واليمن وبلدان الخليج. هؤلاء الطلبة الذين يتزودون بالعلم والمعرفة الحديثة يعودون إلى بلدانهم ليصبحوا قادة الرأى والفكر والسياسة. هذا فضلاً عن البعثات التى كانت مصر ترسلها إلى البلدان العربية ومنها لبنان طوال ستين عاماً لتطوير التعليم والحياة الجامعية، فى حين كان كل ناشدى العلم الدينى المعتدل والمستنير يأتون إلى الأزهر الشريف بمصر من أجل التعليم الدينى العالى بمختلف كليات الأزهر، فضلاً عن الجامعات المصرية الأخري. وأولئك الذين لم تتوافر لهم فرصة الذهاب إلى القاهرة لمتابعة التحصيل العلمى فى جامعاتها، كانوا ينتظرون المجلات القادمة من القاهرة، من الهلال إلى الرسالة إلى المقتطف وغيرها. أو ينتظرون ما يكتبه وينشره الأعلام الكبار أمثال طه حسين ومحمود عباس العقاد وسلامة موسى وأحمد أمين وقاسم أمين الرائد فى تحرير المرأة، أو ينتظرون الأعداد الشهرية من سلاسل الكتب التى تقدم الموضوعات التاريخية والمؤلفات الروائية والأبحاث العلمية. ويمكن أن أتحدث عن نفسي، حيث نَعِمْتُ بأن والدى كانت تصلُهُ أعدادُ الهلال بشكل دورى وكذلك المقتطف وروايات جرجى زيدان مما مكننى من أن تكون تلك المجلات والكتب وغيرها فى مكتبته مصدراً مهما من مصادر المعرفة بالنسبة لى ولاخوتى وأخواتي. كذلك كانت سلسلة كتابي، إذ إنّ سلسلة حلمى مراد التى تترجم روائع الأدب العالمي، كانت هى ايضاً مفتاحى السحرى للدخول فى عوالم المعرفة، والتى أسهمت فى نشأتى الفكرية من خلال متابعتى لإصداراته فى الآداب العالمية. كذلك ايضاً شكلت الاذاعة المصرية وبعدها كذلك التليفزيون المصرى فى مطلع الستينيات معيناً لا ينضب من الثقافة العربية والعالمية وتعزيزاً للانتماء العربى والقومى لأجيال واسعة فى لبنان ومصر ومختلف انحاء العالم العربي. ولا يفوتنى ما كان لعمالقة الفن والموسيقي، والغناء امثال ام كلثوم وعبد الوهاب وفريد الاطرش وعبدالحليم حافظ وصباح ونجاح سلام ووديع الصافى من أثرٍ كبيرٍ فى مخيلة ووجدان ليس فقط المصريين واللبنانيين بل والعرب جميعاً بما اسهم فى تعزيز التعارف والوئام والتواصل العربي. وخلال ما يقرُبُ من القرن من الزمن، تبادل لبنان ومصر الأدوار الثقافية. فمع إطلالة الخمسينيات من القرن العشرين، أصبحت بيروت مركزاً للطباعة والنشر والصحافة، واحتضنت التيارات المعاصرة فى الشعر والمسرح، وأصبحت مركزاً لترجمة التيارات الفكرية والأدبية التى تظهر فى أوروبا والعالم وتأثيراتها. وفى مطلع السبعينيات هاجر إليها العديد من الكتّاب والصحفيين الذين احتضنتْهم صُحُفُها ومجلّاتُها ودُورُ النشر فيها وحتى الانتاج السينمائى المشترك. إن ما أنجزه المفكرون والمثقفون والأدباء العرب، بين لبنان ومصر، خلال سحابة قرنٍ من الزمان، يرقى إلى المشروع الثقافى المتكامل. ففى مرحلة النهضة الأولى مع الرواد أمثال الطهطاوى وبطرس البستانى وعلى مبارك ومحمد عبده وأحمد فارس الشدياق، وإبراهيم اليازجي، وقاسم امين وُضعت أسس مفاهيم الحرية الوطنية والتربية، وتعليم المرأة وتحريرها، وأصبحت هذه القيم جزءًا من الفكر العربى الحديث. وفى المرحلة اللاحقة وهى مرحلة التحرر الوطنى أصبحت قيم الديمقراطية والدستور والبناء والتنمية، والوعى العربى والوحدة العربية، هى القيم التى اضطلع بها المفكرون والمثقفون، ليس فى مصر ولبنان فحسب. ولكن من العراقوسورياوتونس والجزائر والمغرب، وانطلاقاً من مصر غالباً، شاركوا فى صياغة المشروع العربى التحررى الذى حقق إنجازاتٍ فى الستينيات، تجلّت وبزعامة مصر، فى استقلال العالم العربى فى كل أرجائه، وتحوُّل العرب إلى قطبٍ عالميٍ من خلال الحياد الإيجابى وجبهة عدم الانحياز. ايها السيدات والسادة، خلال العقود الأخيرة، كانت الإخفاقاتُ أكبرَ من الإنجازات، فلم تتحرر الأرض ولم يتحقق التقدم والمشاركة بالقدر المؤمل ولم تتحقق الوحدة المنشودة ولم يتحقق التعاون على اساس تنمية المصالح المشتركة بالقدر المطلوب، وتراجعت مستويات التعليم واخفق العديد من المشاريع الاقتصادية، وتخلفت الصناعة بدل أن تتقدم وهجر الفلاحون الأرض نتيجة التغيرات الاجتماعية والسكانية الكبيرة ليكوِّنوا أحزمة البؤس حول المدن العربية. كما فقدنا الحكومات التمثيلية، وانتُهكتُ الدساتيرُ الحافظةُ للحريات العامة والخاصة ولحكم القانون، مع زيادة التهميش لقطاعات واسعة من المواطنين والحول بينهم وبين المشاركة فى الحياة السياسية. كذلك تمادى التراجع فى جهود التنمية المناطقية وفى معدلات النمو الاقتصادي، كما ازدادت الفجوة الاقتصادية والمعيشية بين الاغنياء والفقراء، وازدادت القبضة الثقيلة للاستبداد وبالتالى تردت الأوضاع المعيشية بسبب سوء إدارة الحكم وسوء ادارة الشئون العامة وتفشى الفساد وعدم التحسب للزيادات السكانية الكبيرة. وبالتالى زادت حدّة التردى فى جميع المؤشرات الإنسانية والتعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية. وبالاقتران مع هذه الظواهر السلبية تردّتْ المشاركةُ فى الحياة العامة، وزادت حدّةُ الفجوة الاقتصادية بين المواطنين. وزادت كذلك فجوة انحسار الثقة بين الدولة الوطنية ومواطنيها، وزادت أيضاً حدة إدراك المواطنين لذلك الانحدار. كما تعرض عدد من بلداننا العربية لنكسات ولعدة اجتياحات اسرائيلية وغيرها وانقلابات وصدامات وخلافات وفتن تميزت بالعنف الشديد، وأضعنا بذلك جملةً كبيرةً من القدرات والإمكانات والفُرَص نتيجة إساءة استعمال السلطة وسوء إدارة الحكم وسوء إدارة الشأن العام. لقد انتفضت الشعوب العربية فى السنوات الأخيرة، على التمادى فى العسف وتجاهل القانون واستفحال الفساد. وإذا كانت مصر تتلمس طريقها اليوم إلى إعادة البناء ومعالجة الثغرات الاقتصادية وتعزيز الانفتاح والممارسة الديمقراطية وتعزيز الحريات العامة واحترام حقوق الانسان. وإذا كانت تونس لا تزال تتلمس طريقها إلى تثبيت التداول الديمقراطى للسلطة، فإن ما يجرى فى سورياوالعراق واليمن وليبيا من اقتتال وتدمير وتدخل لقوى اقليمية مثل ايران وتركيا ودول عظمى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا غير مسبوق فى تاريخنا. إنّ التمادى فى القتل والهمجية وانسداد آفاق الحلول السياسية يُنذرُ بأشد الأخطار ليس فقط على هذه الدول، بل على المساحة العربية ككل. إنّ القول إِننا نريد صنع ثقافةٍ عربيةٍ جديدة، هو كلامٌ كبير. وليس لأنّ ذلك الهدف صعبٌ جداً فى الظروف الراهنة، بل لأنّ هناك أساساً جيداً ونهضوياً لهذه الثقافة تكوَّن ونما بين مصر ولبنان، ثم صار تجربةً عربيةً شاملةً انتشرت فى آفاق المشرق والمغرب. وصحيح أنّ مستويات التعليم تراجعت (وهى ركنٌ مهمٌّ فى بناء الثقافة العامة)، وأنّ مستويات الفقر ارتفعت (وهى أول ما يؤثّر فى الثقافة الوطنية والإنسانية)، فإنّ تراجُعَ الوعى بإمكانيات تجديد المشروع العربى الثقافى والسياسي، إنما يعود بالدرجة الأولى إلى الاختلال الذى طرأ على تجربة الدولة الوطنية فى العالم العربي. والى تفاقم انهيار عدد من الانظمة العربية وبروز شبح التقسيم والتفتيت على اسس عنصرية وطائفية ومذهبية وحتى مناطقية. ذلك مما اسهم فى انهيار التوازن الاستراتيجى بين المنطقة العربية وجوارها. وهذا دليلٌ آخر على التلازُم والتكامُل بين الامرين الثقافى والسياسي. ولا نحتاج إلى برهانٍ بالطبع على الفشل والاختلال المذكور، فحالة معظم الأقطار العربية اليوم تدعو للأسى والأسف. ومن أشدها ما حدث بعد العام 2011. ولا تحسبوا أنى أُبالغ عندما أقول إنّ آثار ذلك الاختلال أولَ ما ظهرت، فى موطنَيْ النهضة العربية الأُولي، أى لبنان ومصر، ولذات الاسباب: ضغوط المشروع الصهيونى الاستيطانى والالغائي، وتداعيات احتلال فلسطين. فلبنان نشبت فيه حربٌ أهليةٌ بسبب الانقسام على القضة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية، واجتياحات إسرائيل للبنان. ومصر انكسر أُوارُ نهضتها الثقافية والسياسية على وقع نكسة العام 1967 أمام العدو الصهيونى وقبلها بسبب انكفاء المد القومى المتمثل بالانفصال بين مصر وسوريا. ولقد توالت النكسات والصدمات العميقة التأثير فى حاضر الامة ومستقبلها مع تزايد وتفاقم التوسع الاستيطانى الاسرائيلى فى الضفة والحصار فى القطاع والتى كان بعضها بحجم الزلزال ومنها ما حصل تقريباً فى عام واحد: من اجتياح سوفيتى لأفغانستان بما عناه ايضا وعملياً بعد ذلك من اطلاق لنزعات التشدد والتطرف فى المنطقة؛ وانسحاب عملى لمصر من قضايا العالم العربى بعد توقيعها لاتفاقية كامب دايفيد؛ ونجاح الثورة الاسلامية فى ايران بما حملته من سياسات وممارسات باتجاه اعتماد سياسة تصدير الثورة بعد الباسها ثوباً دينياً متشدداً تحت عنوان ولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية وبما تعنيه ايضاً من زيادة حدة التطرف والتشدد ومن زعزعة للاستقرار فى المنطقة العربية بسبب التدخلات الايرانية المتعاظمة وآثارها المتفاقمة فى المنطقة العربية. ايها السيدات والسادة حينما ضُرِب رأسُ هرم النهوض، فإنّ التداعيات والتصدعات توالتْ وتعددت الأسباب، وما عادت قاصرةً على آثار احتلال فلسطين. وهكذا فإنه وكما صار النهوض الثقافى والسياسى العربى ذكرى مؤلمة ومُحزنة، فإنه لا ينبغى أن نُخطئ بالاستبدال بسبب العجز أو اليأس، فنقول: تعالَوا نحاولْ استعادة نهضةٍ ثقافيةٍ عربيةٍ ما دامت النهضة السياسيةُ بعيدةً أو غير ممكنة. إنّ الثقافة ليست بديلاً عن السياسة والعمل السياسى والاقتصادى التنموي، بل هى جُزءٌ منهما. إنّ العلةَ ليست فى الإنسان العربي، فها هُمْ أبناؤنا فى المَهاجر يحققون إنجازاتٍ فى العلوم والآداب ووسائل الاتصال ومجالات الهندسة والأعمال. أما التراجُع فى الثقافة العربية الشاملة، وفى الوعى الثقافى العربي، فهو عَرَضٌ وليس جوهراً، وله عِلَل كثيرة ومن اهمها: مشكلات الدولة الوطنية، والتدخلات الأجنبية بسبب ضعف الدولة الوطنية العربية وسلبيات تجاربها، واختلال التوازن الاستراتيجى فى المنطقة العربية ومن حولها، وتفاقُم ظواهر التطرف من جهة، والعصبيات المحلية والجهوية من جهةٍ أخري. إنّ هذا التدهورَ الكبيرَ الحاصلَ الذى تعانى منه الامة على جميع الصُعُد لن يتغير حتى تقوم حالة نهوض: ثقافيٌّ واجتماعيٌّ وسياسيٌّ واقتصاديٌّ جديدٌ تعبر عن روح ووجدان و ارادة الامة فى مواجهة جملة من التحديات التى تضج فيها المنطقة العربية. ولذا فإنّ أولَ التحديات التى ينبغى مواجهتها هو تحدى التجديد السياسى لتجربة الدولة الوطنية. ولستُ من القائلين بحتمية تكرار التجارب الناجحة، لكنْ لماذا لا نُحاولُ ذلك وفى مصر ولبنان بالذات. لقد تغير العالم كثيراً، وتغيرنا نحن العرب على وقع تغيُّر العالَم. لكنّ مصر وهى ثلث العالم العربى مهيأة بحكم التاريخ وتجارب الماضى والحاضر، ليس لتكرار العمل والدور، بل لتجديد العمل وتطوير الدور. لقد اطلعت على كتاب الأستاذ على الدين هلال وزملائه عن استعادة الدولة. والمشكلات كبيرةٌ فى هذه الاستعادة بالطبع. وأرى مزاجاً متشائماً، لكنّ هذا هو الشأنُ فى مراحل التحول الكبري. وفى دولةٍ كبرى وطبيعية مثل مصر لا خوفَ فى المدى المتوسط والطويل على حظوظ التطور والتطوير وإمكانياتهما. ومن يقرأ كتب الأستاذ جلال أمين التى تُتابع الحالة والمزاج بمصر، يُحسُّ بالإمكانيات الكبرى التى تختزنُها أمُّ الدنيا. والامل ان تبرز وتظهر فى الأعوام القادمة وعلى وقْع مساعى القيادة المصرية فى تعزيز بناء الدولة المدنية الحديثة وإطلاق المشروعات الكبرى للتنمية التى دخلت فيها وإطلاق حركة النهوض الاقتصادى فى البلاد مع تأكيد الاستقرار فى الاقتصاد الكلى والجهود الواجب تعزيزها فى مضمار التطور الديمقراطى ودور المؤسسات وتعزيز الحريات العامة واحترام حقوق الانسان. والحقيقة ان المزاجُ اللبنانيُّ أكثر تشاؤماً هذه الأيام من المزاج المصري. ومع ذلك فإننى لستُ شديد الخوف على لبنان الا انه قد اصبح يقتضى المسارعة الى العودة الى الالتزام بالدستور وانتخاب رئيس للجمهورية وانهاء الشغور الرئاسى تجنبا للمزيد من الاضرار. إنّ العنوانَ بمصر مثل العنوان بلبنان وهو تجديدُ تجربة الدولة الوطنية الحديثة واعادة الاعتبار للكفاءة والجدارة والانجاز فى السياسة كما فى الادارة. والنهضةُ المصريةُ عام 2011 والتى كانت لتجديد شباب الدولة والنظام رغم ما تخلَّلها وما أَعقبها من اشكالات ونكسات، ما تزال قويةً وواعدةً. وكذلك اليقظةُ اللبنانيةُ البادئة عام 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتى تابعها السوادُ الأعظَمُ من اللبنانيين والعرب والعالم، تُشعر بأنّ شبابَ لبنان ومثقفيه وسياسييه وإعلامييه مستعدون للتضحية، ومستعدون لاجتراح المستحيل، من أجل تعزيز قيم لبنان المستندة إلى العيش المشترك، والنظام الديمقراطي، واحترام الحريات العامة، و احترام حقوق الإنسان، والعمل واستعادة مؤسسات الدولة، والرشد فى إدارة النظام السياسى والعام. يجب ألا نستخفّ بأشواق الناس وآلامهم وتطلعاتهم وطموحاتهم. فالدولةُ دولتُهم، وسيُسرِّعون من حضور الربيع الحقيقى إذا رأوا طائر السنونو الأول. وفى أجواء مصر ولبنان اليوم يبدو ان هناك أكثر من طائر، رغم هذا الصقيع العربى القاتم القسَمات. أمّا التحدى الثانى التحدى الذى تشكله ضرورة استعادة إيمانِنا بالعروبة المستنيرة كرابطة ثقافية ورابطة حضارية وثيقة تقوم على الإيمان بالمصلحة العربية المستندة إلى فكرة الدولة المدنية المعترفة بحقوق المواطنين المتساوين والجامعة للاثنيات والقوميات والاديان والمرتكزة على قواعد التكامل والاعتماد المتبادل فيما بين دولها وشعوبها. فلقد أدّى انحسار هذا المفهوم للعروبة الى ان تطفو على السطح مجموعة من المشكلات والتى يرتبط بعضها بالهويات والانتماءات الطائفية والمذهبية والعرقية اسهمت فى تعميقها صدمات وممارسات داخلية عنيفة غير ديمقراطية واخرى ناتجة عن تدخلات خارجية مخربة للفكر ومدمرة للانسان والعمران. ولذلك لا بد ان تدب الحياة من جديد فى شرايين العروبة المستنيرة استناداً الى تعميق الروابط الحضارية والثقافية والمصالح المشتركة . أما التحدى الثالث، فهو التحدى الذى تطرحه فكرة التكامل. وهو له جانبان، أحدُهُما اقتصادى وتنموى وتبادُلى أو أنه اعتمادٌ متبادَل. وثانيهما دفاعيٌّ فى المجالات العسكرية والأمنية والاستراتيجية. قرأتُ أنّ الزعيم المصرى الكبير مصطفى النحاس كان يقول متشائماً عند مناقشة تجارب إقامة الجامعة العربية: ماذا يفيد مصر الانضمام إلى العرب فى جامعة؟ صفر+ صفر= صفر. وقد ثبت أنه مخطئٌ رحمه الله. فالجامعةُ على تواضُع إنجازاتها حقّقت نجاحاً لا بأس به فى مجالات العمل العربى المشترك. ونحن هنا لا نكرّر حتى تجربة الجامعة، بل نحن نجدّدُها ونُضيفُ إليها تحت وطأة الحاجة والضرورة. كُلُّنا نكسَبُ من التكامل مع بعضنا بعضاً ونكسب من انفتاح الأسواق، ومن السلاسة فى الحركة بين الأقطار، ومن التعاوُن الطليق بين القطاعات الخاصة، وقطاعات الأعمال، والاستثمارات المتبادلة والاعتماد المتبادل. أما الجانب الدفاعى للتكامل فتبدو الحاجةُ الشديدةُ إليه اليومَ والآن، بعد أن استولى علينا الخواءُ الاستراتيجي، وصارت موجات الهجرة فى دولنا المأزومة طعاماً للأسماك الكبيرة من وراء المحيطات وفى أعماقها. عند حصول الأزمات والمخاضات، ولانعدام تطبيق اتفاقية الدفاع العربى المشترك وتطويرها وتعزيزها، صرْنا عُرضةً للتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، وضحيةً لخلافات الكبار وصراعاتهم حيث يسفك الدم العربى وتدمر المدن العربية ولا من ردة فعل عربية على مستوى الجرائم الفظيعة التى ترتكب بحق بلداننا وانساننا العربي. بينما ها هم مجاورونا الأفارقة، يملكون القدرة على نشر قوات سلامٍ ومصالحة فى الأقطار التى تتعرض للأزمات بداخل القارة. البعض يقول إنّ فى ذلك انتهاكاً للسيادة الوطنية، لكنْ كيف يكون ذلك انتهاكاً إذا كان المقصود إيقاف النزاعات الداخلية فى الأقطار، وصُنع المصالحات والاستقرار، والتخلص من الميليشيات والجيوش الأجنبية فى العراقوسوريا وليبيا، وحماية المجالات الأرضية والبحرية والجوية للبلدان العربية؟! إنّ التكامل هو ورقةٌ رابحةٌ فى كل الأحوال، ولا تهدد السيادة التى تنتهكها إسرائيل فى كل وقت، وأُضيف إليها الآن إيران وتركيا وأمريكا وروسيا الاتحادية! برأيى إنّ مكافحة التطرف يجب أن تعتمد على ثلاث ركائز لبناء استراتيجية واضحة من أجل التصدى لها: التفسير الصحيح والمستنير للإسلام الحاجة إلى تعزيز ثقافة الديمقراطية وارساء قيم الانفتاح والتسامح والتعددية. احترام حقوق الإنسان وقبول الآخر المختلف. كما اننى اعتقد انّ الاعتدال العربى والكثرة الكاثرة من المسلمين main stream هم وحدهم القادرون على هزيمة التطرف وظاهرة الإرهاب المعولم فى صفوف العرب والمسلمين ولا سيما فى ظل توسع ظاهرة الاضطراب العالمى وتفشى ظواهر التطرف والعنف فى سائر الانحاء. اما التحدى السادس فهو تأكيد أن حقوق الأفراد والحريات العامة والخاصة كما حقوق الجماعات لا يضمنها إلا الدستور الذى يلتزم الجميع بوجوب احترامه وتطبيقه. اما التحدى السابع ففى تأكيد وجوب خوض غمار الإصلاح المؤسسى وذلك من خلال الحضّ على اعتماد الفكر المؤسسى والعمل على قيام المؤسسات وتفعيل عملها وضمان قدرتها على العمل بتعاون واحترام وتناغم بين بعضها بعضاً. ولكن أيضاً ضمان قدرتها على مراقبة بعضها بعضاً (Checks and Balances). اما التحدى الثامن فيتمثل فى ضرورة ان يتلازم التقدم على مسار الإصلاح المؤسسى مع التقدم على مسار وجوب قيام السلطات القضائية والدستورية المستقلة والتى تتمتع بالكفاية والفعالية والضامنة للحقوق والواجبات. اما التحدى التاسع فهو تأكيد وجوب تلازم مسارات النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبرامج استئصال الفقر والامية وكذلك تعزيز مستويات المشاركة مع الحرص على الاستقرار فى الاقتصاد الكلى (الماكرو- اقتصادي) وكذلك الإصلاح البنيوى والمؤسساتي. أيها الإخوة والأخوات، إنها سنواتٌ صعبةٌ وصعبةٌ جدا، صعد فيها الإرهاب وسقط فيها الملايين من العرب صرعى وجرحى ومعوقين، وهُجِّر عشراتُ الملايين أيضا عن ديارهم، وطال التدمير الإنسانى والمادى اكثر من بلد عربى وطالنا نحن فى لبنان فى اكثر من اتجاه سياسيا وامنيا وانسانيا وعمرانيا. وما بقيت جهةٌ إقليمية أو دولية إلاّ تدخلت فى شئون بلداننا العربية وامعنت فيها افسادا وتدميرا. لكن على مدى تاريخنا الماضى والحاضر لم يكن الأمل وحده ما كنا نحتاجه، وعلى أهميته الكبري، فى مواجهة المحن والأزمات. ولكن ما كان نصيرَنا فى الماضى وسيكون نصيرَنا الآن وفى المستقبل هو الشجاعة فى مواجهة الحقيقة والإرادة الصامدة والثابتة والمثابرة فى مجالاتها حتى يتمَّ لنا ما نريد وتريده شعوبنا العربية. لقد أتينا إلى مصر كما كنا نأتى دائما محبين ومسترشدين ومتعاونين ومتضامنين. جئنا للأمل والعمل. وسنبقى دائماً ذُخرا لمصر، وتبقى مصر ذُخرا لنا. وهذا قَدَرٌ، لكنه قَدَرٌ محبَّب. عاشت مصر، عاش لبنان، عاشت الأهرام، وعاش مثقفونا وإعلاميونا.