الشخصيات الفذة المؤثرة فى محيطها العملى والانسانى تسبقهم دائما سيرتهم العطرة، وسجاياهم ومناقبهم الحميدة والرفيعة، وتتصدرها استقامتهم المهنية والحياتية، وما أن نفقد واحدًا من هؤلاء النبلاء فان احساسنا بالخسارة يكون كبيرًا وموجعًا، لأنه سيصبح من العسير تعويضه، فهم عملات نادرة قلما يجود زمننا الرمادى بمثلها. الأسبوع الماضى فقدنا عزيزًا منهم، هو الأستاذ محمود عارف، نائب رئيس تحرير الأخبار، الذى أمضى سنوات عمره المديد فى بلاط صاحبة الجلالة حارسًا أمينًا وفيًا لقضايا التعليم وهمومه التى لا تنتهي، ويعد من القلائل المعدودين على أصابع اليد الواحدة الذين يشار إليهم بالبنان ولاسهاماتهم السخية عند الحديث عن الآباء المؤسسين لمسيرة اصلاح التعليم خلال ال 30 عامًا المنصرمة، ولدينا توثيق كامل شامل لهذه الاسهامات المدونة فى بابه الشهير «أخبار الجامعات»، الذى كان منصة انطلاق برزت عبرها أسماء باحثين وأساتذة لمعوا وأصبحوا ملء الاسماع والابصار لاحقا، وتحولوا إلى نجوم ساطعة تتلألأ فى الفضائيات والجامعات الحكومية والخاصة، وعبر مقالاته الثرية فى صفحة الرأى صباح كل خميس. حياة الراحل كانت سلسلة متصلة من الحملات والمعارك الصحفية النزيهة الخالية من اللهث خلف المناصب، ومحاولات نيل الحظوة عند أولى الأمر الذين بيدهم منح الهدايا والعطايا والسفريات للداخل والخارج، إن كنت مطيعًا قادرًا على استثمار المساحات المخصصة لك فى صحيفتك، أو مجلتك لاصطياد المغانم والخيرات والأموال المتدفقة من اتجاهات ومنافذ عدة. استطاع فعل ذلك وأكثر لأنه كان كتلة صلبة من الاستقامة، فلم يحد يوما عن مبادئه لارضاء سين أو صاد من زملاء المهنة، أو المسئولين مهما ارتفع شأنهم، وظل حريصًا على ترك مسافة فاصلة بينه وبين وزراء التعليم المتعاقبين ورؤساء الجامعات وكل من لهم علاقة بالقطاع التعليمى وغيره، حتى يكتب ويقول ما يريده بحرية وصدق دون أن تربكه حسابات ومعادلات من قبيل أن ما سوف ينشره سيغضب فلانا أو علانا، فتفكيره كله كان متجها للوفاء بأمانة الكلمة ومدى نفعها للناس، واحترامه لذاته ولأفكاره التى كان مؤمنا ايمانا صادقا لا يتزعزع بها. ولم تضعف عزيمته يوما أو يلن جانبه أمام الاغراءات ومحاولات استمالته، فصوت الحق كان أقوى من أى اغراء يُعرض عليه، ولم يشعر فى أى وقت من الأوقات بالندم على موقف اتخذه وتحمل تبعاته مهما كانت فادحة، فقد تميز بالرضا الشديد بالمقسوم له، فاحترام النفس فى نظره أثمن وأعلى قيمة من المال والجاه والعز المقيم. لذلك فإنه كان صارما فى التمسك بما يراه صوابا لدرجة كنت أشفق عليه من فرط ما يثقل به كاهله، لا سيما وأنه كان يواجه مافيا التعليم التى لا ترحم ويدها طويلة كما نعلم، وكم من مرة أبدى تحسره على عدم تجاوب السادة المسئولين مع المطروح من خطط لتطوير مناهجنا التعليمية البالية العقيمة، وطرق وأساليب إعداد المدرسين والارتقاء بمستواهم، وأن يتخرج من جامعاتنا طلاب أكفاء مهرة يمتلكون نواصى تخصصاتهم. وكان بيده كشف كثير من الخفايا والأسرار المحرجة للجالسين على المقاعد الوثيرة، لكنه كان يتعفف عن الانحدار لمثل هذا المستوى المتدني، خاصة أن بعضهم كان يقول فى العلن شيئا ويفعل عكسه فى الخفاء. ولا يمكن لأى شخص منصف إغفال دوره الرائد فى تبنى قضية أرباب المعاشات من الصحفيين، حيث قاد حملة قوية لرد اعتبار من خدموا الصحافة ومنحوها زهرة شبابهم وعصارة جهدهم، فإذا بهم يحصلون بعد أعوام الشقاء على ملاليم لا تكفى سد احتياجاتهم الأساسية، ولا تتناسب مع مقاماتهم وعطائهم، ولا مع الارتفاع المطرد فى الأسعار، وعارض بشدة القاعدة المتبعة فى نقابة الصحفيين أن من يمنح معاشا منها يحرم من النشر الصحفي، ولا يحق لهم مواصلة العمل فى صحفهم التى تعتبر المتنفس لهم ولطاقاتهم وأكسجين الحياة بالنسبة لهم، ولم يسأم من متابعة دعوته لابداء التقدير اللازم والمستحق لهم بدلا من معاملتهم على طريقة خيل الحكومة عند بلوغهم سن الشيخوخة. ولا يخفى علينا أننا فى مصر لم نخط بعد مسارًا يعتد به نستطيع بواسطته الاستفادة من الخبرات المتراكمة، واستفادتنا منهم ليست خصما من حق الشباب وصغار السن فى إعطائهم فرصتهم فى البروز واثبات ذواتهم وقدراتهم وتصعيدهم للمواقع القيادية الحساسة وغير الحساسة، فأزمتنا أننا نهوى أسلوب التجزئة عند تعاملنا مع تاريخنا وخبراتنا، فالتاريخ فى نظرنا ليس حلقات متصلة ببعضها البعض، وأن احداها تقودك للأخري، لهذا نفتقد الجانب التراكمى فى مساعينا للتقدم والنهوض، فكل من يحل فى موقع قيادى يفضل البدء من نقطة الصفر، وليس البناء على الجيد والمفيد الذى تركه من سبقوه، فالكل يرفع شعار أنا ولا احد غيري، ولا يعنيه فى معظم الاحيان الصالح العام ومصلحة وطننا الباحث عن التنمية والتحديث. اعتزاز الراحل بنفسه وبقلمه أكسبه احترام وتقدير من عرفه وأيضا ثقتهم، وكانوا يتسابقون للإنصات لمشورته فى العديد من الموضوعات المهمة، ومن هنا نستخلص الدرس المتمثل فى أن الاتساق مع النفس هو الميراث الحقيقى الثمين الذى نتركه خلفنا بعد مغادرتنا لدنيانا الفانية، وأن من يعيش لأجل الحق والصدق تبقى ذكراه حية نابضة فى قلوب وأذهان الناس، فتحية إكبار وإجلال للمحترم محمود عارف الذى لم يحن هامته سوى لرب الكون، وتمسك بالحق حتى يومه الأخير فى عالمنا المتلون. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقى