لم يفكر العرب يوما في تحويل انتصار السادس من أكتوبر إلي دستور عمل مثلما حلمنا ونحلم كل يوم، لم يفكر العرب في استثمار ما تحقق عسكريا ومعنويا في بناء نظام عربي صلب ومتين، ولم يستوعب العرب أن كل ما جري في ربع قرن من المآسي والحروب والأخطاء الكارثية هو نتيجة عدم استثمار تلك اللحظة الكبري في تاريخهم! قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في احتفال أمس الأول بالذكري الثالثة والأربعين للانتصار: مر أكثر من أربعين عامًا علي حرب أكتوبر المجيدة، وهي الحرب التي أسهمت في تغيير الكثير من المفاهيم العسكرية التي كانت سائدة حينها، وضرب بها المصريون مثلاً عظيماً في تحدي الواقع المرير والعبور إلي مستقبل أفضل. فلو كانت حرب قد حركت مفاهيم عسكرية علي مستوي العالم، فما الذي أصابنا حتي لا نتعلم من ملحمة حربية وأسطورة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث؟ لو لم يكن الانقسام يسود العالم العربي قبل نكسة عام 1967، ربما لما كانت مصر قد مرت بتلك المواجهة التي لم تدخلها ضد إسرائيل وحدها ولكن ضد قوي كبري رأت أن تقليم أظافر الدولة الأكثر ثقلا وتأثيرا في المنطقة العربية يضمن الانفراد بمقادير المنط،قة، والسيطرة علي مقاليد الأمور في المحيطين العربي والشرق أوسطي وشق الصف قبل طفرة بترولية عظيمة حققت مكاسب هائلة لدول المنطقة ،كانوا يتحسبون لمكاسبها بعد ظهور مؤشرات عن إنتاج مهول من البترول بينما كان يتجه العالم إلى استهلاك المزيد من الخام. قبل 5 يونيو 1967 كانت الخلافات العربية عميقة, ودون الخوض في أسباب الخلافات يمكن القول أن نكسة 5 يونيو 1967 جاءت كإحدي نتائج الفرقة في مواجهة عدو مستعد هو وحلفائه. في اكتوبر 1973 كانت هناك دعامتان أساسيتان لاستعادة الثقة وتحقيق انتصار كبير في مدة زمنية لم تتجاوز ست سنوات علي النكسة: (1) داخليا: تحققت وحدة الصف، وتم إعلاء قيم التضحية والفداء، وتحلي المصريون بالصبر وتحملوا الظروف الصعبة من أجل تحقيق هدف وطني أجمعت عليه الأمة, وكمثال علي القيم السابقة: قصة الجندي الذي سد فتحة ماسورة نابالم علي ضفة القناة الشرقية بجسمه ومات بعدما تفحمت جثته.. كان يعلم أنه سيموت, وكان يعلم أنه يفعل ذلك لكي يعبر غيره والوطن كله الهزيمة, كان يعلم أنه سيموت ويعيش غيره. (2) عربيا: تجاوزت الأمة الخلافات واحترمت الدول مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للآخرين، وتوحد الصف العربي علي الهدف اقتناعا بوحدة المصير. فجاءت تلك اللحظة العظيمة في 6 أكتوبر 1973 وهي اللحظة التي لم تدم طويلا علي الرغم من أن التضامن العربي كان رائعا، وروح الأخوة تجلت في أجمل صورها فقد كان بمقدور العرب استثمار مرحلة ما بعد حرب أكتوبر لبدء مرحلة جديدة من العمل المشترك، وإطلاق ميلاد جديد للوحدة العربية التي حلم بها جيل القادة العظام في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فقد جاء الانقسام وتراجع التنسيق سريعا بعد تراكم الثروات من ارتفاع أسعار النفط عالميا بعد الحرب ثم هيمنة الدول الكبري علي سياسات المنطقة من خلال خطط ممنهجة، تهدف إلي السيطرة علي موارد الإقليم وضمان عدم تكرار النصر مرة أخري ثم بدأت سلسلة من الحروب المنهكة وغير المبررة في الشرق الأوسط التي انتهت بوجود قوات غير عربية فوق أراضينا بعد غزو جيش بلد شقيق بلدا شقيقا آخر، ثم غزو أجنبي بلد شقيق ثم ظهور جماعات العنف وتهديد الدولة بالتفتت والتقسيم. وعلي النقيض من الأداء العربي في حرب أكتوبر المجيدة أيضا.. تمر سنوات ما يسمي «ثورات الربيع العربى» صعبة وثقيلة علي المجتمعات العربية. داخليا: نواجه تحديات عظيمة، مثل محاولات الإخضاع والتطويع بشتي الطرق وإشاعة الانقسام والإرهاب والبطالة والفساد، وجماعات ضغط ومصالح وغيرها من التحديات. عربيا: مؤامرات لتفتيت دول المنطقة العربية وانهيار دول وفوضي عارمة وحروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن والعراق. ماذا فعلت الدول العربية من أجل مواجهة ذلك؟ لا شيء.. بل علي العكس أجواء ما قبل 1967 تستمر منذ سنوات.. فإلي أين سنصل بالواقع العربي الحالي؟ مازال القاع العربي وقاع المؤامرات فيه الكثير، وسيناريوهات الفوضي والتقسيم علي أشدها، بينما التنسيق في أدني صوره, الأمر الذي يدعونا إلي القول: إننا أحوج ما نكون إلي حل الخلافات والترفع عن الصغائر للتغلب علي هذه التحديات. فمن يظن أنه سينجو منها واهم وخاسر. فها هي أمريكا تفعل مع دولة صديقة وحليفة في المنطقة (السعودية) ما تفعله الآن، وتصدر قانونا معيبا لا يحترم القانون الدولي ويمنح القضاء الأمريكي حق ملاحقة حلفاء الأمس واليوم وفقا للهوي الخاص (قانون جاستا). إن الشعب المصري يعرف عن قناعة أن الخروج من الأزمة الحالية يتطلب من الجميع ( كل حسب مقدرته) التضحية والصبر والعمل والوحدة, كما أدرك ذلك بعد نكسة 67 وحتي حقق النصر. الشعب المصري رفض محاولات التشكيك التي كانت تبث في الداخل ومن الخارج لإشاعة اليأس والإحباط وعدم الثقة في قدرته علي تحقيق العبور والنصر. فالبعض كان يدمن الاستماع إلي إذاعة صوت إسرائيل وغيرها من المحطات الإذاعية في السابق، إلي جانب ما يشيعه مغرضون في الداخل. مثلما يحدث اليوم في السوشيال ميديا وما يحدث فيها من تشكيك وإشاعة اليأس والإحباط. أيضا ما يجب أن نستلهمه اليوم من دروس أكتوبر، ونستفيد منه كأحد دروس تحقيق الانتصار، هو أن نثق في أنفسنا وفي قدراتنا، ونرفض التشكيك ومحاولات ضرب العلاقة بين الجيش والشعب ونثق بأن كل هذه المحاولات التي تنفق عليها الملايين ستفشل. الانتصار في معركة تعويض ما فاتنا والسباق مع الزمن هو أمر مؤكد بالإصرار علي تحقيق ما نريد في ظل محيط إقليمي مضطرب. الثقة في قواتنا المسلحة, فكما جاء الانتصار في أكتوبر نتيجة الانضباط والعمل والإخلاص وقيم الفداء وحماية الوطن وأبنائه واستعادة العزة والكرامة سيأتي الانتصار في معركة البناء والتنمية والمشروعات العملاقة. قال الرئيس.. أدي الجميع دوره ووقف الشعب خلف جيشه بحب واحترام، وأثبتت الأحداث عبر السنوات الماضية أن القوات المسلحة المصرية ظلت تقوم بدورها مخلصة لهذا الشعب، وأنها لم ولن تتردد في حمايته والدفاع عنه من كل شر وكما نجحت بفضل الله في استعادة الأرض والكرامة، فإنها تخوض اليوم معركة ضد الإرهاب وقوي الشر، كما تسهم في مسيرة البناء والتعمير والتنمية» من أهم الدروس المستفادة التي يجب أن يستفيد منها النظام السياسي في مصر اليوم هو الشباب.. شباب مصر المخلصون.. وكلهم مخلصون حتي وإن شوهت فورة شبابهم بعض تصرفاتهم. فبعد ما جري في عام 1967، قامت القوات المسلحة بتجنيد الشباب ذوي المؤهلات العليا، فكانوا نموذجا لاستيعاب العلم الجديد وإفادة مجتمعهم وقواتهم المسلحة به في معركة العزة والكرامة فكما كان شباب مصر بعد 1967 ذخيرة مصر لتحقيق النصر في أكتوبر 1973فإن شباب مصر اليوم هم ذخيرة مصر للتنمية والبناء والمستقبل الأفضل. وفي هذا السياق أقول إننا ننتظر مؤتمر الشباب قبل نهاية الشهر الحالي من أجل نقلة نوعية في العلاقة مع الشباب، من خلال الحوار المستمر والاستماع إلي همومه وتطلعاته إلي مصر أفضل. قال الرئيس في خطابه الأخير: «لا يخفي عليكم أن حجم التحدي كبير.. وأن علينا بذلك جهودا مضاعفة من أجل تعويض ما ضاع من وقت خلال السنوات الماضية، ولاسيما في ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها الوطن، فضلا عما يشهده عالم اليوم من متغيرات وتحديات كبيرة تؤثر علي الجميع، إلا أنني علي ثقة في أن ما يتم بذله من جهود ضخمة من جانب أبناء مصر المخلصين كفيل بتحقيق التقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يطمح إليها الشعب المصري». في الذكري ال43 لحرب أكتوبر، ومثلما قال السيسي، سنظل دوما نتذكر شهداءنا، ولن ننسي تضحياتهم وبطولاتهم، ولن نتخلي عن أسرهم، وسنعمل دوما معا من أجل توفير حياة أفضل لأبنائهم، لنؤكد أن دماءهم الطاهرة لم تذهب هباء، وندعو الله أن يتغمدهم بواسع رحمته. وما أصدق تلك الكلمات التي تمنح حربا عظيمة حق قدرها فهو يقول «حرب أكتوبر المجيدة ستظل تُذكرنا أن الأوطان تعيش بتضحيات شعوبها، وأن مصر لن تنهض سوي بجهود أبنائها وشبابها الأوفياء» لمزيد من مقالات محمد عبدالهادي علام