في قاعة ممتلئة بالمئات من الرجال والنساء أغلبهم يتجاوز الستين من العمر، دخلت سيدة طويلة القامة قصيرة الشعر وسط تصفيق الحاضرين.لوحت بيدها طويلا وبكثير من الحماسة معلنة «لقد فعلناها... لا أحد على الاطلاق يمكن أن يأخذ منا (حزب استقلال بريطانيا اليميني القومي) الاضطراب والارتباك الذي تسببنا به . لكننا فزنا بالجولة التمهيدية في أوليمبياد 28 دولة أعضاء في الإتحاد الأوروبي لمغادرة ذلك الاتحاد. أنا أثمن كل الدول الأخرى التي تنظر لبريطانيا وتأمل في تقليد ما فعلناه. لكن علينا أن نتذكر أن الحبر الذي وقعنا به وثيقة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يجف بعد». تحدثت ديان جيمس بلباقة في كلمة قبولها زعامة حزب «استقلال بريطانيا» القومي اليميني (يوكيب) خلفا لزعيمه المستقيل نايجل فاراج الذي وضع الحزب على الخريطة السياسية البريطانية وحوله في غضون أقل من 10 سنوات من حزب هامشي إلى ثالث أكبر حزب على المستوي الوطني وأهم من ذلك «حزب الخروج» من الاتحاد الأوروبي. فبدون حزب «يوكيب» في الحياة السياسية البريطانية لما خرجت بريطانيا من الاتحاد. وبعد انتهاء كلمتها التي تضمنت «رؤية وردية» لمستقبل «يوكيب» في عهدها، رفع أحد الحاضرين صوته قائلا:»كنت رائعة». لم تكن ديان جيمس الزعيمة الجديدة ل»يوكيب»، التي شغلت قبل انتخابها منصب نائبة رئيس الحزب وعضوا في البرلمان الأوروبي، لم تكن وجها معروفا في المشهد السياسي البريطاني قبل تولي الزعامة خلفا لفاراج الذي استقال بعدما حقق حلمه السياسي وصوت البريطانيون بالخروج من الاتحاد الأوروبي. لكنها تتولي زعامة الحزب في لحظة فارقة في بريطانيا وفي خريطة أحزابها السياسية. لحظة سيولة واضطراب وخلل وتشوش فاقمها قرار الخروج من الأتحاد الأوروبي الذي خلط أوراق الأحزاب الكبري أيديولوجيا، لدرجة أن حزب العمال، أكبر أحزاب المعارضة ووجه اليسار البريطاني تقليديا والمدافع التاريخي عن المشروع الأوروبي يقف الأن في خانة واحدة مع «يوكيب» إذ يريد الحزبان تفعيل المادة 50 من الميثاق الأوروبي لبدء إجراءات الخروج من الاتحاد «فورا»، فيما حزب المحافظين الحاكم ووجه اليمين الرسمي البريطاني، يجر قدميه جرا نحو تفعيل المادة 50، ويحاول تأجيل أي مفاوضات رسمية حتي حلول 2017. سيحاول «يوكيب» وسط تلك الفوضي والهوة التي تتزايد بين الحزبين الكبيرين في بريطانيا أن يجد موطئ قدم جديدا، ومانفيستو جديدا، وأنصار جدد، والأهم «سبب لوجوده سياسيا». ففي نظر الكثيرين «انتهى سبب وجود يوكيب» مع تصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي. فالحزب قام على العداء لمشروع الاندماج الأوروبي باسم السيادة الوطنية. وخلال السنوات العشر الماضية بني الحزب خطابه السياسي كليا على العداء لبروكسل وتحميل المشروع الأوروبي مسئولية كل المشاكل الإقتصادية والاجتماعية والأمنية في بريطانيا وتعزيز الخطاب القومي المتعصب مع عنصرية صريحة. ومع تصويت البريطانيين بالخروج من الأتحاد الأوروبي، يجد «يوكيب» نفسه أمام «أزمة هوية»، فالحزب الذي لطالما عرف نفسه بالحزب المعادي لأوروبا والمهاجرين عليه أن يجد أرضية جديدة يقف عليها. وفي أول كلمة لها بعد اعلان فوزها بزعامة الحزب، شددت ديان جيمس على أن بريطانيا «صوتت بالخروج» من الإتحاد الأوروبي، لكنها «لم تخرج بعد». وهذا يعني أن وجود «يوكيب» ما زال شديد الأهمية للوصول لإتفاق خروج يرضي ال17 مليون بريطاني الذين صوتوا لمعسكر الخروج من استفتاء يونيو الماضي. كما شددت على أن بريطانيا فازت فقط بالجولة الأولى من الحرب مع الإتحاد الأوروبي، لكن الحرب نفسها لم تنته، وذلك في رسالة ضمنية منها إلى زعماء اليمين الأوروبي وعلى رأسهم زعيمة اليمين القومي الفرنسي مارين لوبان التي دعت لإجراء استفتاء شعبي في فرنسا حول البقاء في الأتحاد الأوروبي على غرار بريطانيا. ولتشجيع باقي الدول داخل الأتحاد الأوروبي على الخروج من ذلك المشروع، تريد ديان جيمس أن تكون بريطانيا هي «النموذج» الذي يحتذي به. وهذا يعني «خروجا بكل معني الكلمة» من الأتحاد الأوروبي، وخروجا واضحا وصريحا وليس «نصف خروج» أو «خروج مخفف» كما تقول. وعلى هذا الأساس وضعت ديان جيمس في كلمتها أولويات»يوكيب» بعد استفتاء يونيو الماضي، وعلى رأسها ضمان خروج كامل مع المشروع الأوروبي، وضمان اتفاق يحقق مصالح بريطانيا، ورفض البقاء في السوق الأوروبية الموحدة، ورفض أي أتفاق يسمح بحرية انتقال العمالة الأوروبية داخل بريطانيا، وهي مواقف يدعمها يمين حزب المحافظين ويمين حزب العمال وزعيمه الحالي جيرمي كوربن. وتري جيمس أن دور «يوكيب» سيكون مطلوبا أكثر من أي وقت مضي وحتي نهاية المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بحلول 2019 على الأغلب. فحزب المحافظين كما ترى «لا يمكن ائتمانه على اتفاق الخروج... والتهديدات التي يتعرض لها الإستفتاء تتزايد يوما بعد يوم. فنحن نريد خروجا من أوروبا 100%. لا يمكنني أن أكون أكثر وضوحا». لكن بخلاف المواقف المتشددة فيها يتعلق بالإتحاد الأوروبي، سيسعي الحزب للميل نحو «يمين الوسط» بدلا من «اليمين المتطرف» لنيل المزيد من الأصوات الغاضبة من «العمال» و»المحافظين» وذلك في محاولة لتوسيع قاعدته الشعبية. فالبعض داخل الحزب، رغم اعترافهم بالأثار الإيجابية لزعامة نايجل فاراج، عبروا عن استياء مكتوم من المواقف المتطرفة التي كان فاراج يعبر عنها والتي كبدت الحزب كما يعتقدون نحو 11 مقعدا في البرلمان كان يمكن للحزب الفوز بها في الانتخابات العامة 2015 لو كانت مواقفه أكثر وسطية. واستجابة لذلك الشعور المكتوم بالاستياء، استغلت ديان جيمس أول كلمة لها بوصفها زعيمة الحزب، لتقديم «خطاب سياسي معتدل» بمعايير حزب «يوكيب»، معلنة بوضوح «ساستخدم لغة مختلفة وسأكون أقل حدة في التعبير من فاراج، لكنني سأكون صادقة». وإلي جانب تقديم خطاب سياسي أكثر اعتدالا، يريد «يوكيب» تطوير وتوسيع القاعدة الشعبية له. وسيكون هذا على حساب حزب العمال بالأساس. ف»يوكيب» نال بالفعل أصوات أقصي يمين حزب المحافظين خلال سنوات حكم ديفيد كاميرون، الذي كان «ليبراليا أكثر منه محافظا» ما دفع أقصي يمين حزب المحافظين لترك الحزب والانضمام ل«يوكيب». وباعتراف فاراج نفسه أي توسيع حقيقي ملموس للقاعدة الشعبية ل»يوكيب» يجب ان يأتي من قواعد حزب العمال بالاساس. والهدف الواضح للحزب هي المدن التي نال فيها «يوكيب» المركز الثاني بعد «العمال» في الانتخابات العامة الأخيرة. وفي هذا الأطار تعد معاقل «العمال» في شمال ووسط انجلترا وويلز هى «أرض المعركة المقبلة» بين الحزبين على من يمثل منهما «الطبقة العمالية» البريطانية. انتصار «يوكيب» على «العمال» في هذه المعاقل كان يبدو قبل أعوام قليلة حلما بعيد المنال. الآن كل شىء تغير. ففي السابق كانت قدرة «يوكيب» على جذب قواعد شعبية جديدة مسألة صعبة بسبب الاعتقاد أن «الصوت ليوكيب هو صوت ضائع»، لكن هذه الصورة تغيرت بعدما جر «يوكيب» حزب المحافظين الحاكم وبريطانيا كلها لإجراء استفتاء البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي. أما التحدي الأخر الذي تضعه ديان جيمس نصب عينها فهو تغيير النظام الانتخابي في بريطانيا لكي يكون أكثر تمثيلا. ففي الانتخابات العامة 2015 نال الحزب 4 ملايين صوت، وبات ثالث حزب على المستوى الوطني بعد المحافظين والعمال، لكن ال4 ملايين صوت ترجمت عمليا لنائب واحد في البرلمان بسبب النظام الانتخابي البريطاني. وما يسعي اليه «يوكيب» حاليا مع أحزاب مثل «العمال» و»الأحرار الديمقراطيين» و»الخضر» هو تغيير النظام الانتخابي البريطاني. أما على المستوى الأوروبي، فهناك تحد يتعلق بالقارة كلها، إذ يريد «يوكيب» تأسيس تحالف واسع بين تيارات اليمين الأوروبي للتنسيق والدفع نحو المزيد من الإستفتاءات الشعبية حول البقاء أو مغادرة الإتحاد الأوروبي ولهذا قرر نايجل فاراج أن يظل زعيم الكتلة البرلمانية للحزب في البرلمان الأوروبي. التحديات الداخلية والخارجية أمام ديان جيمس كبيرة اذن. فهي تريد مانفيستو سياسيا يحافظ للحزب على هويته ويجعله أكبر برجماتية واعتدالا بدون ان يفقد هويته السياسية، خاصة في ضوء التشابه في الكثير من الخطوط العريضة لسياسات الأحزاب الرئيسية في بريطانيا حاليا. كما تريد توسيع القاعدة الشعبية للحزب، وإعادة ترتيبه تنظيميا. وتوسيع تيار اليمين الأوروبي بزعامة حزبها. لكن تحدي «الخروج من ظل نايجل» سيكون أكبر تحدي شخصي أمام ديان جيمس. فهي لا تتمتع بالكاريزما التي لدى فاراج. الكثير من أنصارها يقولون إن «الكاريزما ليست كل شىء في السياسة. المهم السياسات»، لكن هذا ليس صحيحا تماما. فديان جيمس، 56 عاما، وهي سيدة أعمال ومؤيدة سابقة لحزب المحافظين وأنضمت ل»يوكيب» 2007، بدت في كلمتها لقبول زعامة الحزب أشبه ب»مدير تتفيذي ناجح» منها لزعيمة حزب سياسي. بالنسبة للكثير من البريطانيين العاديين «فاراج هو يوكيب... ويوكيب هو فاراج». فصراحته الفجة وإنعدام دبلوماسيته وتعبيراته الخالية من مساحيق التجميل السياسية هى سبب شعبيته وتأثيره على الطبقة العمالية البريطانية. ديان جيمس لا تمتلك أيا من هذا، ولكي تكون «وجه يوكيب الجديد» خلفا لفاراج ستكون هذه مهمة عسيرة. ملء ذلك الفراغ الذي سيتركه فاراج، يتلازم مع منع المزيد من الإنشقاقات داخل الحزب. فمنذ الانتخابات العامة عام 2015، إستقال عدد من أعضاء «يوكيب» وانشق الآلاف لينضموا إلى حزب المحافظين. فهناك رغبة حارقة لدي تيار عريض وسط الحزب لنيل الأحترام. فالحزب قبل استفتاء يونيو بأشهر قليلة «نكتة» الحياة السياسية البريطانية، والحزب «الذي لا يأخذه أحد بجدية». لكن بعد نتيجة الاستفتاء تغيرت صورته مع ظهور تأثيره على الناخبين. لكن «الإحترام» له لم يزد بالضرورة. والكثيرون داخل الحزب يريدون «حزبا سياسيا حقيقيا لا حزب فاراج»، لكن في نفس الوقت بدون الوقوع في فخ «النخبوية» التي تعاني منها الأحزاب التقليدية وبدون أن يتحول «يوكيب» لحزب من «قلب المؤسسة». وهذه العلاقة المعقدة المتشابكة بين الحزب والطبقة السياسية لطالما ميزت «يوكيب». ف«نايجل» فاراج لطالما اتهم البرلمان بنوابه بأنهم «مجموعات نخبوية» و»برلمان فاسد»، لكن في نفس الوقت لطالما بذل حزبه مساعي محمومة للفوز ولو بمقعد واحد في البرلمان. هناك اذن تحديات كبيرة واضحة أمام «يوكيب» على رأسها «سؤال الهوية» و»الأولويات»، لكن اللحظة نفسها التي تعيشها بريطانيا بعد قرار الخروج من أوروبا «مليئة بالفرص» بالنسبة للحزب. فهناك أولا «حالة تشرذم غير مسبوقة» يعاني منها حزب العمال، الذي إستطاع «يوكيب» في السنوات الأخيرة أن يخطف منه الكثير من قواعده التصويتية العادية، خاصة في المدن العمالية المهمشة التي تعاني ارتفاعا في معدلات البطالة وتراجع في الدخل. وعلى هذه الأرضية، لم يكن مثيرا للدهشة أن تعلن ديان جيمس أن يوكيب «هو حزب المعارضة في الإنتظار»، بديلا عن حزب العمال. هذا السيناريو «يدغدغ احلام» اليمين البريطاني والأوروبي عموما، لكنه «كابوس» تيارت الوسط واليسار. ومعضلة هذه التيارات أنها ترى «أسوأ سيناريو» قادما بدون أن تحرك طرفا لمنعه أو لقطع الطريق عليه. فإذا ما إستطاع «يوكيب» ان يحل محل «العمال» بوصفه أحد الحزبين الرئيسيين في البلاد، فإن التداعيات لن تقف عند حدود بريطانيا...أوروبا كلها ستكون معنية.