عندما قاد جمال عبد الناصر الثورة ليلة 23 يوليو 1952 وأصبح في دائرة اتخاذ القرار من خلال مجلس قيادة الثورة قام في الأشهر الأولى (سبتمبر-ديسمبر 1952) بإصدار عدة قوانين كشفت عن البعد الاجتماعي للثورة وهي: الإصلاح الزراعي ،من حيث تحديد الملكية الفردية للأرض الزراعية وتحديد علاقة المالك بالمستأجر، والثاني تخفيض إيجارات المساكن بنسبة 10-15%، والثالث قانون منع الفصل التعسفي للعمال، أي الاستغناء عنهم حسبما يرى صاحب العمل. وتقرر شغل الوظائف عن طريق مسابقات يجريها ديوان الموظفين بعيدا عن «الواسطة» ثم قيام وزارة القوى العاملة بمهمة تعيين خريجي الجامعة وحملة الدبلومات المتوسطة ابتداء من أواخر عام 1961 عقب تأميم وسائل الإنتاج الكبرى (يولية 1961) وإنشاء القطاع العام. وبهذه القرارات وغيرها على مدى سنوات وجوده في سلطة الحكم، احتل عبد الناصر مكانته في قلوب جمهرة المصريين الذين شعروا بالأمان على حياتهم فخلعوا عليه لقب «حبيب الملايين» وهو لقب ظلت الجماهير تردده ليلة وداعه بدموع حارة وقد شعرت بالضياع الذي ينتظرهم في غيابه وكانوا قد حمَلوه كل همومهم، وكلهم ثقة في قدرته على حل المشكلات .. وفي كل هذا لم يكن عبد الناصر يسعى لأن يكون حبيب الملايين .. ولكنه كان يتصرف بإحساس فقراء الفلاحين والمعدمين الذي كان يجلس وسطهم ويشرب من قلة الماء التي يشربون منها دون أن يتأفف، ويتصرف بإحساس العامل الذي كان يخرج إلى عمله يوميا ولم يكن يضمن عودته إليه في اليوم التالي إذ كان من السهل على صاحب العمل أن يخبره في نهاية اليوم بألا يأتي في الغد (الفصل التعسفي). كما كان يشعر بإحساس خريجي الجامعة وحملة الدبلومات المتوسطة الذين تتركهم الدولة لسوق العرض والطلب. وعندما رفع عبد الناصر قضية الشعب الفلسطيني من قضية شعب لاجىء تسعى المؤسسات الدولية لتدبير وسائل لإعاشته، إلى قضية شعب فقد أرضه ومن حقه إقامة دولته على أرضه المغتصبة، وحدد علاقاته مع جميع دول العالم على أساس موقفها تجاه تلك القضية، وجعل من العروبة رداء واحدا يلتحف به الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، وخاض معارك حادة ضد الاستعمار بكافة أشكاله .. احتل مكانته في قلوب كل العرب وخلعوا عليه لقب «زعيم العروبة». وفي كل هذا لم يكن عبد الناصر يسعى للحصول على لقب «زعيم العروبة» وإنما كان يتصرف من وحي نكبة فلسطين التي شاهدها بعينيه، وذاق مرارة الحصار في الفالوجا، وآمن بأن الطريق إلى تحرير فلسطين يبدأ من القاهرة. وهكذا .. وجد عبد الناصر نفسه زعيما باختيار الجماهير وليس بقرار سلطوي أو هتافات منافقة. فلقد كان يسعى لتحقيق مصالح جماهير الأمة .. ينتظرون كلمته من حين لآخر .. ويفرحون معه، وينتصرون له، ويحزنون لحزنه .. فهو الذي يشحذ همتهم، ويشحن عاطفتهم، ويربطهم بمبادىء العروبة حتى لقد أصبحوا وكأنهم على قلب رجل واحد. وهذا هو البطل الذي ينتظره قومه لكي يعبر بهم الأزمات بما يختزنه في نفسه من طاقات التحدي والمقاومة. ولا غنى للناس عن البطل الذي يقودهم إذا ما نضجت الظروف والامكانات. وعندما يرحل الزعيم ولا يظهر من يشغل مكانه .. وتتوالى الأزمات ولا من مستجيب .. نجد أن الشعب يستدعى زعيمه الذي رحل في حنين وشوق ليستمد منه المدد، ويستعيد مواقفه البطولية في مواجهة الأعداء، ومواقفه الشجاعة في مواجهة الأزمات .. وهذا هو عبد الناصر الذي ترفع الجماهير العربية صورته كلما اشتد الخطب في مواجهة العربدة الإسرائيلية والطغيان الأمريكي .. عبد الناصر الذي كان يقول في عفوية بسيطة : «إذا مدحني عدوي فهذا معناه إني ماشي غلط .. أي ماشي في سكته». وهو الذي قال إن البنك الدولي لكي يعطيني مساعدات يطلب مني رفع الدعم عن السلع .. وإن الاستجابة لهذا الطلب معناه إشعال ثورة الجماهير .. عبد الناصر الذي لم تكن تغريه كلمات المديح المبطنة بالنفاق .. وكان يعرف نفسه حق قدرها.. والحقيقة أن لكل شعب من شعوب الدنيا زعيما يظهر حسب مقتضى الظروف يقود شعبه ويحكم مقدراتهم .. ولكن ليس كل رؤساء الحكومات في العالم أو رؤساء الدول يعتبرون زعماء حتى ولو خلعت عليهم وسائل الإعلام صفات الزعامة والحكمة من باب منافقة السلطان. وعلى سبيل المثال هناك أكثر من أربعين شخصا تولوا رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية لكن كم عدد الزعماء منهم ؟ .. لا تجد إلا ثلاثة: أولهم جورج واشنطون الذي قاد حركة الاستقلال عن التاج البريطاني، ثم ابراهام لنكولن محرر العبيد، وفرانكلين روزفلت الذي عبر ببلاده أزمة الكساد الاقتصادي العالمي خلال ثلاثينيات القرن العشرين. أما باقي الرؤساء فقد أنهوا فترة رئاستهم دون أن تخلع عليهم ألقاب الزعامة والريادة. وفي كل بلد من بلاد الدنيا يقف التاريخ أمام قلة قليلة استحقت لقب الزعامة دون أن يسعى أحد لها والباقي وهم الأكثر ذهبوا طي النسيان. ويذكر التاريخ في صفحاته دوما أسماء مضيئة مثل غاندي في الهند الذي ذهب ليقابل ملك بريطانيا في زي الفقير الهندي ولما نصحوه بتغيير ملبسه بما يتناسب مع مقابلة ملك بريطانيا العظمى قال لهم: إنني لا أستطيع تغيير ملبسي وأنا أمثل أمة من الجياع والعراة، ويقف أيضا عند نهرو ثم تنطوي الصفحة. وفي اندونيسيا هناك أحمد سوكارنو ودمتم .. وفي الصين هناك ماو تسي تونج ويغلق الملف، وفي أفريقيا أيضا زعامات منفردة مثل أحمد سيكوتوري في غينيا، وكوامي نكروما في غانا، وجوليوس نيريري في تنزانيا، وتوماس مانديلا في جنوب أفريقيا الذي ظل زعيما لشعبه وهو في السجن. يكفي عبد الناصر فخرا أن الفلاح المصري لم يبرح أرضه بسبب ظروف اقتصادية كما فعل بعد عبد الناصر، وأن العامل المصري لم يهجر وطنه بحثا عن لقمة العيش، وأن جميع المصريين رغم هزيمة يونيو 1967 كانوا يجدون قوت يومهم ويستطيعون علاج مرضاهم والترويح عن أنفسهم بالسعر المناسب مع الدخل المحدود، وأنهم لم يشعروا بالتضخم الاقتصادي الذي أصبح ينهش في بطونهم بعد عبد الناصر، وأن المصريين جميعا كانوا يفخرون بوطنهم .. وطن العزة والكرامة .. وطن السلام الاجتماعي .. وأنهم لم يخاطروا بحياتهم في البحر في هروب جماعي إلى أوروبا بحثا عن فرصة عمل عزت في الوطن.