استهتار ما بعده استهتار، وإهانة بالغة لا تغتفر السماح باستمرار استنزاف ثروتنا البشرية بهذا الشكل المفجع والفج معا، فخيرة شبابنا تبتلعهم مياه البحر المتوسط، وهم يطاردون سراب الثراء والجاه ورغد العيش فى ايطاليا وبقية البلدان الأوروبية، وهؤلاء الشباب زاد تتوخى كل دولة ساعية للنهوض والتنمية المحافظة عليه ورعايته بعناية فائقة جدا، حتى تجود قريحتهم بالخيرات لوطنهم الذى يحتضنهم ولا يكون طاردا لهم. وقبل أن نلوم ونلعن المصريين الذين قضوا نحبهم فى فاجعة مركب رشيد، التى لن تكون بالتأكيد الفصل الأخير فى مسلسل الهجرة غير الشرعية، يجب أن نراجع أنفسنا أولا لاستكشاف دوافعهم لترك حضن الأهل والأصدقاء الدافئ، والارتماء فى أحضان المجهول، لقد فعلوا ما فعلوه لأنهم ضجوا من بؤس حياتهم وعدم عثورهم على عمل يوفر لهم الحدود الدنيا المعقولة من العيش الكريم، فهم بين نارين مستعرتين، نار البطالة ومآسيها وأخطارها وأمراضها المستعصية، ونار المجازفة، لعل الحظ يبتسم لهم، وغالبا ما يختارون المجازفة بمدخرات أسرهم وأرواحهم لغياب الأفق الباعث على إشعارهم بالأمل فى أن غدهم سيكون أفضل من يومهم، وأنهم إن عملوا بجد واجتهاد سيرتقون لأعلى دون النظر إلى اصلهم وفصلهم. يسترعى انتباهنا فى كارثة رشيد ثلاثة ملامح مؤسفة ومستفزة. أولها: أن فواجعنا وحوادثنا فى مجملها نسخ كربونية تتكرر بحذافيرها، وكأننا عاجزون عن التعلم من تجاربنا السارة والحزينة، فحادث رشيد سبقته حوادث مماثلة لم نحرك لها ساكنا، وأضحت جزءًا عاديًا من روتين حياتنا اليومية. ثانيها: ثبات ردود افعالنا الرسمية والشعبية، فالحكومة تعد بالتحقيق وتقديم الجناة وعصابات الاتجار فى البشر للعدالة للقصاص منهم، وتعهدات بتشديد القوانين المتعلقة بالهجرة غير الشرعية، فى حين يكسى الحزن والألم وجوه أقارب وأهالى الضحايا، وتبرير دفعهم بأبنائهم لمراكب «الموت السريع» بمعاناتهم من شظف العيش، وبعد تخففهم من أثقال أحزانهم يجهزون ابنا آخر للذهاب إلى أرض الميعاد فى ايطاليا وغيرها. ثالثها: إن انفعالنا وتفاعلنا مع الحدث الأليم يتلاشى بسرعة البرق، ويسقط من الذاكرة ولا يتم استدعاؤه إلا لدى عمل جرد وحصر حجم نزيفنا البشري. وسط كل هذا لا تتخذ قرارات يشتم منها رغبة أكيدة فى وضع نقطة نظام من شأنها الحفاظ على كوادرنا البشرية التى تتسرب من بين أصابعنا ونقدمها للغرباء على طبق من ذهب، والاستثناء كان ما قرره الرئيس السيسى خلال اجتماع اللجنة الأمنية المصغرة أمس الأول، وأتوجه لحكومتنا باستفسار عما اتخذته من خطوات عملية لخفض نسبة البطالة، واحتواء سواعد الشباب، وفهم خريطتهم فهما صحيحا، وأين الدراسات الاجتماعية التى تشرح لصانع القرار الأوضاع الحقيقية وليس المرجوة للشباب وما يمرون به من ضغوط نفسية وعصبية لانسداد الطرق والمنافذ أمامهم، وتوظيفهم التوظيف الأمثل واللائق الذى يتناسب مع مؤهلاتهم وطموحاتهم؟. يتبع هذا الاستفسار سؤال آخر عن السبب وراء عدم الضرب بيد فولاذية على يد سماسرة الموت والمتاجرين بالبشر، ولماذا لا نشدد العقوبات المنصوص عليها بالقانون لتصل لحد الاعدام، نعم الاعدام فمَن يحرم البلاد من موردها البشرى الثمين لا دية له ويجب أن يصبح عبرة لغيره. إن إحساسنا وتقديرنا لقيمة البشر محتاج لتعديل جذري، فالراسخ أن المصرى بلا ثمن، وأنه لا كرامة لنبى فى بلده، ولن يضرنا الاعتراف بذلك، فالمواطن له ما يراه وما يتابعه بعينيه وليس الشعارات المرفوعة هنا وهناك، فالفجوة بين الواقع والمعلن كبيرة. وربما كان مفيدا فى هذا السياق ايراد مثالين من اليابان يوضحان القصد من الكلام، ففى أوج ازدهار الاقتصاد اليابانى فى بدايات ثمانينيات القرن العشرين شاع فى دول أمريكا اللاتينية ظاهرة اختطاف مديرى أفرع الشركات اليابانية هناك وطلب فدية لاطلاق سراحهم، واكتشف الإعلام اليابانى أن رئيس الوزراء آنذاك وافق على أن تدفع الشركات الفدية مبررا قراره بأنه يحافظ على حياة مواطنيه غير المقدرة بثمن، والمثال الثانى عندما ذهبت لتسلم رخصة قيادة لدى إقامتى فى طوكيو، طالبنى الضابط بالحذر الشديد عند قيادتى السيارة، لأنه غير مسموح تهديد حياة البشر، فلا مجال للتفريط فى قوتهم البشرية الغالية. اما عندنا فان حوادث السيارات تحصد 25 ألفا و500 شخص سنويا ما بين قتيل ومصاب جراء 14 ألفا و500 حادث فى 2015، ونتكبد بسببها خسائر تربو على 30 مليار جنيه، ولا تعليق سوى أن خسارتنا البشرية إهانة غير مقبولة. كذلك فإن الدوران فى فلك الإهمال والكسل إهانة غير مقبولة، وما حدث فى ماسبيرو من بث حوار قديم للرئيس عبد الفتاح السيسى ليس سوى نموذج معبر لتردى حاله، ويؤلمك أن ماسبيرو فيما مضى كان آية من آيات الاتقان، والدقة، والكفاءة المهنية التى باتت عملة عزيزة كالعملة الصعبة، أيضا إهانة غير مقبولة تدهور أحوال آثارنا وامتهانها بالتعديات وعدم ترميمها، وسوء تسويقها ضمن البرامج السياحية، ومتابعة لعبة القط والفأر بين الحكومة والمواطنين فى قصة الأسعار، ورجال الاعمال مع السوق، ويكفيك كدليل الرجوع لأزمة القمح، والرخصة الرابعة للمحمول، هذا بعض من فيض فلنتكاتف لوقف هذه الاهانات فورا. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي