اليوم الجمعة 23 سبتمبر سنة 2016 يوافق أول عيد ميلاد للأستاذ محمد حسنين هيكل بعد رحيله عن عالمنا . وكنا قد تعودنا نحن أصدقاؤه ومحبوه وتلاميذه أن نحتفل في هذا اليوم بعيد ميلاده. نذهب إليه بدون موعد مسبق ويترك مكتبه ويجلس معنا في الشرفة المقابلة للمكتب .ولأن الرجل غير تقليدي واستثنائي بكل معنى الكلمة. فلم يكن الاحتفال تقليدياً. لا يحضر أحدنا معه تورتة ولا شموع ولا باقة ورد. لكننا نجلس معه نقول له: كل سنة وانت طيب. ........................................................ وقبل أن يرد علينا التحية يتحول اللقاء لإطلالة على مصر والوطن العربي والعالم وما يقوله في عيد ميلاده يصبح مانشتات الصحف في اليوم التالي. وكانت تلك هي الطريقة التي يفضلها للاحتفال بهذه المناسبة. الآن غاب الرجل بجسده لكنه باق بكل ما مثله في حياتنا بل بالعكس أصبح أكثر حضورا من حضوره الجسدي لأن ما مثله باق ومستمر طالما أن عشاقه ومحبيه وتلاميذه باقون على محبته والإيمان بكل ما كان يمثله . سأقول له كل سنة وأنت طيب ولن أقول اننا نفتقده لأن الفقد يعز على الكلام ولا يوجد في مفردات اللغة العربية أن يعبر عن هذا الاحساس. وأيضاً حتى الآن لا أشعر أن الرجل غير موجود وثمة حالة ترقب وانتظار انني لم أسمع صوته في لحظة ما أما في اتصال تليفوني او في لقاء شخصي. فقط سأحاول أن أذكره بما كنا نتكلم فيه في لقاءاتنا الطويلة معه. بالتحديد حول القضايا المعلقة والتي ما زالت معلقة. بل أصبح الكلام عنها اكثر أهمية مما كنا نقوله له في حياته. لعل السؤال الأول هو حكاية مذكراته وسؤالي لنفسي ولاسرته ولاصدقائه وله: •هل كتب مذكراته؟ خصوصا أنه شاهد جوهري وأساسي يعلم اكثر مما ينبغي عن كل ما جرى في مصر والوطن العربي والأمة الأسلامية والعالم الثالث والدنيا كلها منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي وحتى عام 2015 من القرن الجديد. سألته اكثر من مرة: •هل كتبت مذكراتك؟ ولم أسمع منه اجابة محددة لا بالنفي ولا بالإيجاب. وعندما عرضت عليه أن اساعده في هذا الأمر متطوعاً. تكلم عن ان المذكرات تكتب كنص أدبي ولا يحكيها الانسان ولا يتحدث عنها وبقدر الاحتشاد لها والاستعداد لتدوينها والصدق الكامل فيها تصل للناس وتؤثر فيهم وتبقى كأحد نصوص السير الذاتية المكتوبة التي يمكن أن تضاف او تضيف لتراثنا في السير الذاتية. تكرر سؤالي أكثر من مرة وتكررت إجاباته دون أن أسمع منه ما يؤكد او ينفي انه دون هذه المذكرات. يبقى احساسي الخاص الذي يؤكد لي ان الرجل دون مذكرات ربما كانت الأهم من بين المذكرات التي كتبها من عاصروا مصر على مدى اكثر من ستين عاما شهدت من التقلبات والاحداث والتطورات ما لم تشهده أي فترة مماثلة لها من قبل. إحساسي الذي ربما يصل لحدود اليقين انني كنت اجلس مع رجل رغم انه صحفي وكان دائما يصف نفسه بأنه جورنالجي وكان دائما يحب هذا الوصف ويفضله على أي وصف آخر لكن اهتمامه بالادب والكتابة الادبية تفوق كثيرا جدا على وصف الجورنالجي . لن أضيف جديدا عندما أتحدث عما كان يحفظه من عيون الشعر العربي وقد اقترحت عليه أن يقدم مختاراته الشعرية وأن يحددها وأن ينشرها فرفض ذلك تماما. وقال لي ان الشعر احد اهتماماته وانه حفظه صغيرا ومبكرا جدا ولكن مسألة مختارات شعرية ممكن أن يقوم بها شاعر وليس رجلا مثله قضى حياته بين النثر قراءة وكتابة وتذوقا. أيضاً فأنا متأكد أن الرجل كان يحفظ القرآن الكريم وقد حفظه في الفترة التي كان يعيش فيها في حي سيدنا الحسين. حيث أحضرت له والدته من يتولى تحفيظه القرآن الكريم ولأن ذلك تم مبكرا جدا فإن ذاكرته القوية كانت تحفظه حتى لقاءاتنا الأخيرة. أؤكد من جديد أن الرجل اما انه دون مذكراته او تركها بطريقة أو بأخرى لأن ما شاهده لم يتوفر لاحد مثله أبدا. ولم يكن مجرد شاهد على العصر . لكنه كان شريكا في صنع الأحداث السياسية في مصر على مدى 18 عاما هي مرحلة حكم عبدالناصر. منذ ان التقى بعبدالناصر في عراق المنشية بفلسطين خلال حرب فلسطين سنة 1948 وحتى لحظة استشهاد عبدالناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 1970 وهو شريك بالحوار والرأي والمشورة مع عبد الناصر. وربما كان الأقرب إليه طوال هذه السنوات. رحل الاستاذ هيكل عن عالمنا وترك السؤال معلقا ولكن السؤال المعلق لا ينفي أن نطرحه على اسرته على الدكتور احمد والدكتور علي والدكتور حسن ابنائه الثلاثة ومن قبلهم ومن بعدهم على السيدة هدايت تيمور شريكة الرحلة والدرب والطريق. بعد المذكرات يأتي السؤال الثاني هل استعاد أوراقه التي نقلها إلى لندن في ازماته الكبرى مع الرئيس أنور السادات ومع الرئيس حسني مبارك؟ ثمة يقين أن اوراقه المهمة نقلت خارج مصر في الاوقات التي تعدت حدود الازمات ووصلت إلى حالة الخطر على حياته . لكنه بعد ذلك فكر وبحث طويلا جدا عن طريقة لحفظ الأوراق داخل مصر وتوقف أمام فكرة تسليمها لدار الكتب والوثائق المصرية. ولكنه كان يخشى تغير الاوضاع وتبدل الأمور التي يمكن ان تؤثر على وجود وثائق عمره. جال خاطره حول مكتبة الإسكندرية أن تكون مكانا مستقلا يمكن أن يترك فيها أوراقه الخاصة، راوحت الفكرة ذهنه أكثر من مرة لكن في حدود علمي لم يتخذ قرارا ولم يسلم أوراقا لكن سؤالي يبقى عند المربع الاول: هل استعيدت هذه الاوراق من لندن؟ ام مازالت هناك وان كانت قد استعيدت اين هي؟. سؤالي الثالث حول أوراق يومياته. كان من عادته ان يدون مواعيده اليومية على ورق ازرق مطبوع يكتب الموعد والضيف الذي سيقابله في هذا الموعد. وآخر النهار يدون ملخصا فيما جرى في هذه اللقاءات ويحفظ هذه الاوراق. يقيني من ذلك يأتي من أنني في احدى المرات أجريت معه حوارا واكتشفت بعد ان عدت الي منزلي ان جهاز الكاسيت لم يعمل لمدة نصف ساعة وعدت إليه راجيا منه ان نعيد تسجيل هذه المدة وكنت احمل معي آخر عبارة قبل الفترة التي لم تسجل واول عبارة بعدها. وبدلا من أن يعيد املائي للكلام الذي قيل لإيمانه ان الكلام الذي يقال لا يمكن إعادته كما قيل بالضبط. ومن الافضل ان يكون هناك كلام جديد وقبل ان اناقشه في الأمر . اذ به يطلب اوراقه التي يدون فيها ما يجري له كل يوم طلب بالتحديد أوراق اليوم التي أجريت حواري معه فيه. بعد مجيء الأوراق أملى علي الجزء الذي لم يسجل في حواري معه. نحن اذن امام سجل تاريخي لوقائع حياة الاستاذ هيكل. كان حريصا على تدوينها ولأن هيكل استاذ النظام والدقة والالتزام فلا أعتقد انه اخلف هذه العادة على الاطلاق . ربما كانت هذه المواعيد أمورا شخصية لكن من نتكلم عنه لم يكن شخصا عاديا ولم يكن يستقبل ضيوفه ليتحدث معهم عن أحوال الجو. ولكنه كان يتكلم في أدق الامور واخطرها ويستمع إلى تحليلات لوقائع القضايا المطروحة على الواقع المصري. انه تاريخ حقيقي مؤنسن يرويه لنا من خلال وقائع مجردة انسان غير عادي قابل معظم من طلبوا الذهاب اليه كما أن ضيوف الوطن كان جزءا اساسيا من زياراتهم لمصر ان يلتقوا به ويستمعوا اليه ويتكلموا معه. إنها ليست لقاءات الاستاذ بضيوفه فقط بقدر ما هي تاريخ زماننا ودفتر احواله كما يتبدى مما جرى بينه وبين ضيوفه من أسئلة ومن اجابات. كل هذا جرى والرجل تعدى السن التي يمكن للانسان ان يقيم فيها حسابات لما يقوله. سؤالي الأخير لأسرته اين متحف الأستاذ هيكل؟. كنت اتمنى ان اسأل الدولة المصرية والمجتمع المصري والعائلة الصحفية المصرية ونقابة الصحفيين. ومؤسسة الأهرام. لانني لا اعتقد ان اقامة المتحف مسؤولية العائلة وحدها لاننا نتكلم عن رمز لمهنة بكاملها. بعد الرحيل التقينا في بيته مع العائلة وجرى الكلام حول هذا الأمر لكن سرعان ما ذهب كل منا الى حال سبيله وانشغل في امور حياته وها هو العام الاول يوشك ان يكتمل دون ان يتم شيء. ان كان من حقي ان اشير لأمر من الامور فاعتقد ان الرجل كان يميل لفكرة ان يقام هذا المتحف في برقاش وهو المكان الذي كان يقضي فيه نهاية كل اسبوع. وكانت فيه مكتبته الخاصة. لكن جماعة الاخوان في يوم فض اعتصام رابعة قاموا باحراق برقاش . كتبت أيامها مقالا في جريدة أخبار الأدب عن الواقعة كان عنوانه : دخان القلب المحترق. وقد قال لي بعد أن قرأ ما كتبت أن العنوان يجسد مدى حزنه على ماجرى لبرقاش. لكن برقاش عادت كما كانت وقد ذهب إليها اكثر من مرة قبل ان يرحل عن عالمنا. هنا لابد من كلمة حول عملية الربط بين برقاش والمتحف. والكلمة تدور حول مؤسسة هيكل للدراسات الصحفية والاعلامية. هذه المؤسسة كانت من احلام عمره الاساسية واول مكان فكر ان يقيمها فيه نقابة الصحفيين ولا اريد ان استطرد في الحكاية المرة التي جرت في هذا الموضوع فبعد أن استأجر دورا في النقابة لاقامة هذه المؤسسة. وبعد تدخلات من السلطة التي كانت موجودة آنذاك جرى وضع عراقيل ومشاكل امام التنفيذ لدرجة ان مواد البناء عندما وصلت أمام النقابة جاءت تعليمات بعدم ادخالها الا بعد الكشف الامني عليها. صرف هيكل النظر عن أن تكون النقابة مكانا لمؤسسته ورفض أن يستعيد المبلغ الذي كان قد دفعه للنقابة وطلب أن يضم لمعاشات الصحفيين. إستقرت المؤسسة في المدينة العلمية الموجودة عند اول الطريق الصحراوي مصر إسكندرية التي نقول عنها القرية الذكية وقد ذهبت معه في احدى المرات لزيارة المؤسسة هناك وفي مشوار الذهاب والعودة قال لي إنه يفكر في نقل المؤسسة لبرقاش لولا أن برقاش قطعة من الذكريات العزيزة في حياته وحياة مصر. وعندما أثرت معه قضية بعاد برقاش عن القاهرة رغم انها مجاورة للقناطر الخيرية تحدثت عن صعوبة الوصول اليها بالنسبة للدارسين والمترددين عليها. كان لديه الحل جاهزا مما يعني انه قلب الامر في ذهنه اكثر من مرة. قال لي نشتري باصا ينقل الدارسين من ميدان التحرير إلى برقاش في الذهاب والعودة. أي أن الأمر كان قد اختمر في ذهنه ووصل فيه لقرارات محددة واختار برقاش لتكون مقرا لمؤسسته الصحفية وهذا يعني أنها الآن يمكن ان تكون مقرا لمتحف محمد حسنين هيكل. فمتى يتم التحرك لتنفيذ حلم الرجل؟ هل يمكن وضع حجر الاساس في ذكرى وفاته الاولى التي تحل في فبراير 2017.؟ أطرح السؤال ولا أعرف من الذي سيجيبني عليه الاسرة؟ ام الدولة؟ ام المجتمع المصري؟ أم الجماعة الصحفية؟.