ندرك جميعا أن هموم أساتذة الجامعة عديدة ومتنوعة, وهي للإنصاف جزء من الهموم المهنية لقطاعات المجتمع كله. وعلي رأس هذه الهموم والمطالب قضية الرواتب والحوافز المادية التي كانت وراء العديد من الوقفات الاحتجاجية لأساتذة الجامعة ومصدر تذمرهم وسبب احتقان علاقتهم بوزير التعليم العالي في الآونة الأخيرة. ومن الانصاف أيضا ان نعترف بعدم المساواة في الواقع لا في القانون بين أساتذة الجامعة في مصر. فهناك شريحة قليلة العدد منهم لايؤرقهم الهاجس المادي ولايكترثون بالمرتب الشهري ممن لديهم عمل حر في مجال الطب او المحاماة او مكاتب الاستشارات الهندسية وغيرها, لكن الأغلبية العظمي من أساتذة الجامعة الذين لم تتوافر لهم مثل هذه الفرص يعيشون حياة صعبة وليس لديهم سوي مرتبات شهرية هزيلة لاتتناسب مع احتياجاتهم المعيشية ولا مع متطلبات وظيفتهم الأكاديمية ورسالتهم العلمية والفكرية. كما ان هناك كليات كبيرة الأعداد يعتمد فيها الاساتذة بدرجة ما علي عوائد مايؤلفونه من كتب علمية توزع علي الطلاب, لكن هناك أيضا كليات أخري كثيرة لايحظي فيها الأساتذة بهذا الوضع ويعانون بالتالي من شظف العيش نتيجة اعتمادهم فقط علي مرتبهم الشهري الهزيل. السؤال الآن هو: كيف يمكن معالجة الأوضاع المادية الصعبة لأساتذة الجامعة؟.. الاجابة البديهية للوهلة الأولي هي زيادة المرتبات. لكن ذلك يصطدم بمحدودية الموارد المخصصة في الموازنة العامة للدولة, كما ان مثل هذه الزيادة بفرض امكان حدوثها سيترتب عليها بالضرورة مطالبة شرائح مهنية اخري في المجتمع بزيادة رواتبها وهو امر لن تقدر عليه الدولة. البديل الثاني هو زيادة دخل الاساتذة عن طريق منحهم بدلات وحوافز مالية تحت مسميات مختلفة, بحيث لاتعتبر زيادة مباشرة للمرتب الشهري. وقد تقرر ذلك بالفعل منذ عامين من خلال مايعرف ببدلات الجودة مقابل تفرغ اعضاء هيئة التدريس. لكن هذا النظام بدا متعثرا ومثيرا للالتباس واللغط مابين شكوي الاساتذة من عدم انتظام المخصصات المالية مقابل مايطلق عليه الجودة ومابين شكوي الوزارة من عدم التزام الاساتذة بالواجبات التي يفرضها عليهم نظام الجودة او التفرغ. وكانت النتيجة هي احتجاج اساتذة الجامعة ودعوتهم الي اضراب لم يقدر له النجاح أبدا. ولكي نخرج من هذه الحلقة المفرغة فإن علينا مواجهة السؤال التالي: كيف السبيل الي تدبير موارد مالية من خارج الموازنة العامة للدولة تضمن دخلا كريما ومعقولا لأساتذة الجامعة؟ لا حل الا بالبحث عن وسائل جديدة ومبتكرة لتدبير مثل هذه الموارد. وهناك أفكار ثلاث يمكن طرحها للنقاش العام لكن يبدو ان نجاحها يتوقف ابتداء علي تقرير نوع من الاستقلال الاداري والمالي الذي يجب ان تتمتع به الجامعة. فمثل هذا الاستقلال الاداري والمالي هو الشرط المفترض لإنجاح أي حلول لإصلاح الأوضاع المادية لأساتذة الجامعة بل ولتطوير الجامعة ذاتها. الفكرة الأولي هي انشاء صندوق مالي في كل جامعة يتيح في ظل استقلالها الاداري والمالي زيادة رواتب اعضاء هيئة التدريس. وتتكون موارد هذا الصندوق من حصيلة الرسوم التي يدفعها طلاب مايعرف بنظام الانتساب الموجه, وكذلك طلاب شعب اللغات والتعليم المفتوح او أي نظم خاصة اخري تأخذ بها الجامعات مقابل رسوم مالية يدفعها الطلاب. فمثل هذه الموارد يمكن ان تسهم علي الاقل في المرحلة الراهنة ولو بطريق التدرج في زيادة دخل اعضاء هيئة التدريس. والحاصل اليوم ان الجامعات تضع يدها علي معظم هذه الموارد ولا تترك للكليات سوي نسبة هزيلة تنفقها كل كلية في صورة مكافآت لأعضاء هيئة التدريس. ربما يحتاج الامر الي تقنين انفاق هذه الموارد كمصدر يخصص لإصلاح الاوضاع المادية لأعضاء هيئة التدريس. لكن هل تكفي حصيلة رسوم انظمة التعليم المستحدثة مثل الانتساب الموجه واقسام اللغات والتعليم المفتوح لكي تشكل موارد كافية لهذا الصندوق المقترح تسمح بزيادة معقولة وثابتة لمرتبات الأساتذة؟ هذا أمر يتوقف علي السياسة التي تتبعها الدولة لتحديد الأعداد المقبولة من الطلاب في هذه الأنظمة التعليمية الخاصة التي تمثل في ذاتها مشكلة اخري بما تخلقه من ازدواجية تعليمية, لكن هذه قضية اخري تتجاوز حدود هذا المقال. هل يمكن ان يترك لكل جامعة ان تحدد ذلك وفقا لرؤيتها الخاصة؟ هذا امر يتطلب منح الجامعات قدرا من الاستقلال الاداري والمالي وهو ما لم نصل اليه بعد. والمؤكد أننا لن نصل لمثل هذا الاستقلال الاداري والمالي للجامعات من دون رؤية اصلاحية اكثر شمولا وعمقا لمجمل قضية التعليم الجامعي في مصر. الفكرة الثانية هي احداث تطوير جذري وشامل في مراكز الخدمات والاستشارات الجامعية يصل الي حد الثورة بحيث يتم تحديث دور هذه المراكز وتفعيلها لتصبح احد مصادر تمويل الصناديق الجامعية التي تتيح زيادة المرتبات. فالحاصل اليوم انه يوجد في معظم الكليات الجامعية مراكز هدفها تقديم الخدمات والاستشارات في مجالات تخصصية مختلفة من قبل اساتذة علي درجة كبيرة من العلم والخبرة. لكن هذه المراكز الخدمية والاستشارية ما زالت في ظني كنزا لم يتم بعد استغلاله وتوظيفه علي النحو الأمثل ليكون احد مصادر تمويل الجامعة, فهل من المعقول الا تستغل كليات الطب مراكزها الخدمية في ظل الاقبال الهائل علي طلب هذا النوع الحيوي والملح من الخدمة لتحقيق عائد كبير يستفيد منه الجميع؟ وهل من الصعب علي كليات الحقوق والهندسة والزراعة والتجارة وغيرها ان تقدم عبر مراكزها المتخصصة من الخدمات والاستشارات مايحقق لها عائدا ماديا معقولا بل وكبيرا ؟ لماذا لا نحاول مثلا ربط هذه المراكز الخدمية والاستشارية داخل الجامعة بمؤسسات وشركات صناعية وزراعية وتجارية ومحاسبية وغيرها من خلال شراكات تتيح لها الاستفادة من العقول الجامعية وتتيح للجامعة في الوقت ذاته موارد اضافية تمول بها صناديقها الخاصة؟. قد نتفق او نختلف حول اساليب عمل هذه المراكز وأسباب تقصيرها لكن المطلوب اليوم هو السعي الي تطويرها بل وتثوير دورها. وإذا كنا غير قادرين علي القيام بهذا التطوير بأنفسنا فإنه ليس عيبا ان نعهد بهذه المهمة لمؤسسات عالمية تضع لنا قواعد لإدارة هذه المراكز وتحدد لنا الأسلوب الأمثل لكيفية الاستفادة منها. الفكرة الثالثة محاولة انشاء وقفيات خاصة بكل جامعة من خلال تحفيز كيانات القطاع الخاص ورجال الاعمال وكبار المهنيين علي المساهمة كل بما يقدر في التبرع للجامعة بوقف يخصص عائده للإنفاق علي تطوير الجامعة واصلاح اوضاع اساتذتها. ان الجامعات الناجحة في العالم كله أصبحت تعتمد اعتمادا كبيرا علي هذه الوقفيات والتبرعات التي تتم في الغالب من خريجي هذه الجامعات. لن نحلم بطبيعة الحال ان تكون جامعة الإسكندرية مثل جامعة هارفارد التي تجاوزت وقفيتها ثلاثين مليار دولار امريكي معظم هذه الاموال تبرعات من خريجي جامعة هارفارد نفسها, الامر المؤكد علي اية حال هو ان الوقفيات الجامعية هي الأمل الوحيد لتطوير الجامعة واصلاح اوضاع أساتذتها في ظل موازنة عامة محدودة الموارد لاتخصص للجامعات سوي عشر احتياجاتها.. لكن كيف السبيل ؟ هذا سؤال آخر!! solimanabdulmonaim@hotmail المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم