إذا كنت تستطيع دفع عشرات الملايين من الجنيهات فى لحظة، فكم يبلغ حجم ثروتك؟ سؤال لا بد وأن يتبادر إلى الأذهان ونحن نتابع أخبار تحقيقات النيابة فى قضايا فساد توريد القمح وحجم المبالغ المالية التى تم سدادها من جانب المتهمين. 219 مليون جنيه بالتمام والكمال سددها حتى الآن 3 متهمين فقط من بين أكثر من 12 متهما. ترى كم تبلغ ثروة هؤلاء الأشخاص؟ وكيف كونوها؟ وإذا كانت لجنة تقصى الحقائق بشأن مخالفات توريد القمح قد كشفت عن هذا الكم الهائل من الموارد المنهوبة فى 12 موقعا فقط من إجمالى 135 موقعا للتوريد، فكم يبلغ إجمالى ما تم نهبه ؟ وهل يمكن أن تصل المبالغ وفقا لتقديرات البعض إلى 6 مليارات جنيه؟ ما هى شبكة المصالح التى تربط المتهمين بالمسئولين التنفيذيين؟ وإذا كان وزير التموين الأسبق الدكتور جودة عبد الخالق قد أبلغ عن مثل هذه المخالفات خلال العام الماضي، فلماذا صنعت الأجهزة الرقابية أذنا من طين والأخرى من عجين، ليتم تكرار النهب باستخدام نفس الآليات خلال العام الحالي؟ طبعا نحن لا نعرف ما إذا كانت المبالغ المسددة تمثل كامل الأموال التى تم الاستيلاء عليها أم مجرد جزء منها. ما نعرفه أن السداد يتم فى إطار عمليات التصالح فى جرائم الإضرار بالمال العام. و هنا لا بد من التذكير بأن الدولة قد قامت فى مارس 2015 بتعديل قانون الإجراءات الجنائية كى تسمح المادة 18 مكرر (ب) بجواز التصالح مع المستثمرين ورجال الأعمال فى جرائم الإضرار بالمال العام، حتى بعد صدور حكم بات من القضاء، وحتى لو كان المحكوم عليه محبوسا نفاذا لهذا الحكم، لينتهى الأمر بوقف تنفيذ العقوبة نهائيا! الرسالة التى يحملها هذا التعديل القانونى لمن يتعامل مع جهات الدولة هى فلتسرق ما شئت.. وإذا حدث أن وقع المحظور وكشف أمرك، قم بسداد بعض المال المسروق فيتم التصالح معك وتمارس حياتك حرا طليقا تنعم بالغنيمة! نفس المنطق فى استباحة سرقة المال العام نجده فى إصرار الدولة حتى الآن على عدم تحريك الدعاوى الجنائية ضد المسئولين السابقين الذين أبرموا عقود بيع شركات القطاع العام، بعد أن صدرت أحكام القضاء النهائية تؤكد فساد تلك العقود وتقضى ببطلان البيع. قضية فساد توريد القمح فتحت الباب للحديث عن الفساد المرتبط باحتكارات استيراد وتجارة المواد الغذائية، فى تشابكها مع السلطة ومواقع صنع القرار. التصريحات الصحفية تتحدث عن تضخم ملف البلاغات المقدمة للنائب العام فى هذا الشأن. والسؤال هو لماذا تغاضت الدولة بأجهزتها الرقابية عن تلك البلاغات. ثم أين جهاز حماية المنافسة ومكافحة الاحتكار، لا أسكت الله له صوتا، من متابعة تلك الممارسات الاحتكارية والكشف عنها؟ لقد آن الأوان لفتح جميع الملفات. ونفترض أن هناك بالفعل قائمة لدى النائب العام بأسماء شبكة فساد توريد القمح واحتكارات استيراد المواد الغذائية من رجال الأعمال ومن المسئولين التنفيذيين فى المواقع المختلفة. عندما طالبنا الدولة بفرض ضرائب تصاعدية مرتفعة على دخول كبار رجال الأعمال رفضت. وعندما طالبنا بفرض ضريبة على الثروة لمرة واحدة، ولو بنسبة 10%، على الأفراد الذين تتجاوز ثرواتهم حدا معينا، رفضت الدولة مجددا. نعرف أن الدولة تتبنى مبدأ الانحياز الكامل للأثرياء وعدم المساس بمصالحهم. ولكن هل يعقل أن ينسحب ذلك أيضا على أثرياء الفساد؟ هل يعقل أن تتصالح الدولة مع اللصوص وتتركهم ينعمون بالثروات المنهوبة؟ يجب تتبع ملايين الفساد وملياراته ومصادرتها. المفروض أن قاعدة البيانات المتوافرة لدى وحدة مكافحة غسل الأموال الموجودة فى مقر البنك المركزى المصرى تتضمن تفاصيل تحركات حسابات وتحويلات وقروض كبار رجال الأعمال وكبار المسئولين، فضلا عن رؤساء الوزارات والوزراء ورؤساء الشركات القابضة الذين أثبت القضاء فساد العقود التى أبرموها لبيع شركات القطاع العام. والمفروض أيضا أن لدينا اتفاقيات لتبادل المعلومات بين وحدات التحريات المالية مع 16 دولة عربية وأجنبية. المطلوب إذن أن تعقد الحكومة النية على ملاحقة أولئك الفاسدين واستعادة أموالنا المنهوبة. طبعا الحكومة يمكن ألا تعبأ بمطالب الشعب لفتح ملفات الفساد وتعقب أمواله. ولكن إذا كان صندوق النقد والبنك الدوليان، الذين تسعى للحصول على قروضهما، قد أكد كلاهما ضرورة الشفافية وتعزيز المساءلة فى صنع السياسات، ومحاربة الفساد، أفلا ترغب الحكومة فى عمل «أى منظر» يوحى بأنها تأخذ هذا الكلام مأخذ الجد؟ لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى