علاقة الإنسان بالحيوان تبدأ منذ وطئ آدم الأرض، ف «غُراب قابيل» علَّمه كيف يوارى سوءة أخيه، وفى القرآن الكريم حوار بين إبراهيم وبين ربه سبحانه: «.. قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا..» سورة كذا آية كذا، وكبش إسماعيل أنقذه من الموت المحقق، وحوت يونس التقمه ثم أخرجه حيًّا، وبقرة بنى اسرائيل كانت معجزة بين أيديهم، وحمار العزير، وكلب أهل الكهف يؤكدان قدرة الخالق العظيم على إحياء الموتى، وعنكبوت الغار واليمامة التى حفظت محمدًا من بأس أعدائه، وقبل ذلك بأزمان طويلة، وشى هدهد سليمان بالملكة بلقيس، وحمل نوح فى سفينة البشر والحيوان زوجين زوجين. إن الإنسان منذ أن دبَّ على ظهر الأرض ومسَّ جلده ترابها بعد أن هبط آدم من الجنة، تعرف على هذه الحيوانات، لكنه كان يقف منها موقفًا غير واضح، وغير محدد فى بداية التعرف، موقفًا فيه شيء من التساؤل والتخوف، وشيء من الحذر والتربص والتريث. وعلى امتداد العصور والحقب ظل يتأمل هذه الحيوانات، ويتعرف عليها فى ضوء استفادته منها واستئناسه لها، وتوقفه منها أو موقفها منه سلبًا أو إيجابًا. كما أن كثيرًا من مفكرى العرب وعلمائهم قد اهتموا بالحيوان، فوضعوا له مؤلَّفات نادرة أشهرها كتب الجاحظ والدميرى والقزوينى وغيرهم، ومن ثَم وجد الإنسان ضرورات التطور والوجدان الإنسانى فكتب حكايات على لسان الحيوان، وكأنه يُنطِقه كما ينطق البشر، ويجعل له مكانة اجتماعية وثقافية وفنية تناظر مكانة البشر. وأشهر الكتب التى تناولت الحكاية على لسان الحيوان هى «كليلة ودمنة، وخرافات لقمان، وحكايات إيسوب». وإن كانت الحكاية على لسان الحيوان عرفتها الحضارات القديمة جدًّا مثل الحضارة المصرية فى (حكاية السبع والفأر) التى وجدت على أوراق البردى التى تعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد فى حين تعود حكايات إيسوب اليونانية إلى القرن السادس قبل الميلاد، ويرى بعض المؤرخين أن الهند قد كتبت أيضًا حكايات الحيوان فى حكايات تناسخ بوذا. وفى العصور الحديثة كتب لافونتين الفرنسى (1620 1696) حكاياته التى استمدها من كليلة ودمنة وإيسوب ولقمان، ثم كتب «محمد عثمان جلال» ديوان «العيون اليواقظ فى الأمثال والمواعظ» الذى اشتمل على مئتى قصة شعرية أغلبها على ألسنة الحيوان. وقام «أحمد شوقي» بكتابة: الحكايات (1892 1893) أثناء وجوده فى فرنسا متأثرًا بخرافات لافونتين، ثم جاء «عبد الله قريج» عام 1893 ونظم ديوان: «نظم الديوان فى أمثال لقمان» فى خمسين مثلًا فى صورة أراجيز على ألسنة الحيوان والإنسان والنبات، و«محمد الهراوي» (1885 1939) يكتب فى أعماله الشعرية بعض الحكايات عن الحيوان فى بحور شعرية راقصة. و«كليلة ودمنة» من أهم الكتب فى الحكايات على لسان الحيوان وأشهرها وأوسعها انتشارًا، وشهرته لا تقف عند حدود دائرة أدبنا العربي، أو الأدب الفارسي، بل دائرة الأدب الإنسانى كله، ومن أهم الكتب التى تُرجمت إلى العربية ومن العربية، وترجم إلى كل اللغات كما يقول لشاعر فرنسا الشهير لافونتين. وألَّفه «بيديا» الفيلسوف الهندى باللغة الهندية منذ أكثر من عشرين قرنًا تحقيقًا لرغبة ملك الهند «دبشليم» أن يكون له كتاب يخلد ذكره، وكانت هذه المادة أمرًا مرعبًا آنذاك، وجمع فيه «بيديا» أروع فنون الحكمة والأدب والسياسة والأمثال والعبر وأبلغها على لسان الحيوان. ويلعب الحيوان دورًا كبيرًا فى الحكايات الشعبية، ويظهر ذلك أكثر فى الأساطير وخاصة أساطير الشعوب البدائية؛ حيث يتغلب «البطل الثقافي» فى الغالب صورة حيوانية، ولو أنه يمكن تصوره كإنسان فى سلوكه وتفكيره. ولما كان الإنسان البدائى فى العادة يعيش بالقرب من الحيوانات الوحشية منها والأليفة، كان من الطبيعى بالنسبة له أن يبتدع قصصًا تصور مغامرات خيالية للحيوانات، ويجعلها تتصرف وتتحدث، تدفعها بواعث وعواطف مماثلة لما لدى الإنسان. ونجد هذه الصلة القديمة بالحيوان فى مظاهر شتى، منها تقديس الحيوان الذى بلغ حد تأليهه، فقد اعتقد الإنسان البدائى أن الحيوان روحًا، وتبقى بعد موته، وأنها تستطيع أن تنجو من الموت الذى يلحق جسومها سواء بالتجول كأرواح مجردة، أو بالميلاد مرة أخرى فى صورة حيوانية، كما أن بعض الشعوب البدائية اعتقدت أن أرواح الأسلاف تحل فى أجسام الحيوان فعبدوه لهذا السبب.ومثلت آلهة النباتات القديمة مثل: «أدونيس، وأنيس، وديمتر، وأوزوريس» على أشكال حيوانات. وفى الحكايات الشعبية عند كثير من الشعوب البدائية فإن معظم الشخصيات فى العادة من الحيوانات التى تتكلم وتتصرف كالآدميين إلى درجة يتبين منها أن الرواة الذين يحكمون القصص بكل جدية ليست لديهم فكرة واضحة عن الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان، فهو حيوان فى جملة، وإنسان فى الجملة التالية دون حاجة لأن يكون هذا التحول مصحوبًا بشعائر خاصة. وهذا القصور الغامض يمتد إلى القصص المقدسة التى تشكل الأساطير، فنجد كثيرًا من الآلهة تظهر مرة بشرية ومرة أخرى فى شكل حيوان، كهذه التصورات التى جرت بالنسبة لآلهة الأولمب وما يمثلها من آلهة الكلتيين والقيوتون، والتى جاءت متأخرة فى تاريخ التطور الديني. إذ نجد أن «زيوس» ذات مرة نسرا، و«أثينا» بومة، و«هيرا» بقرة، وكان «ثور» الإله الشمالى يتمثل فى الطائر المعروف ب «أبى الحل». كما ظهر «بوذا» فى صور حيوانية مختلفة، وافترض أن حكايات الجاتاكا، أو قصص مولد بوذا، التى تعد أقدم وأهم المجموعات فى الحكايات الشعبية، والتى تشكل أيضًا جانبًا من التعاليم البوذية المقدسة، نفترضُ أن هذه القصص التى تدور حول الطير والبهائم والأسماك تعبير عن التجارب التى مر بها بوذا خلال حياته السابقة على الأرض. والعلاقة بين عالم الإنسان والحيوان حميمة أوحت بها الحكايات القديمة، وفى بعض من قصص الخوارق يرتبط مولد البطل بمولد حيوان أو أكثر، ثم تتشابك مغامراتهما ومصيرهما معًا، مثال ذلك ما جاء فى بعض الملاحم الأيرلندية عن «كيخلن» البطل الأيرلندى وحصانيه. وحكايات الحيوان فى العادة يقصد بها إظهار براعة حيوان ما وغباء حيوان آخر، ويمكن التشويق فيها عادة من السخرية الناشئة عن الحيل أو المآزق التى يقع فيها الحيوان بسبب غبائه. وفى الأساطير الفرعونية نجد قصة الأخوين التى تحذر فيها أبقار القطيع صاحبها الراعى «بيتو» من غدر أخيه الذى قرر أن يقتله عند عودته الى المنزل لوشاية كاذبة خبيثة دستها زوجة أخيه ضده، وفى نفس القصة يتخذ «بيتو» صورة العجل أبيس لينتقم، وتروى الأسطورة مشهدًا بين «بيتو» وهو فى صورة العجل وبين زوجة أخيه يحدِّثها فيه عن رغبته فى الانتقام لنفسه، وتتكرر هذه الظاهرة كثيرًا فى الأدب المصرى القديم؛ إذ يحذر الحيوان الإنسان من خطر يدهمه كما يفعل التمساح مع الأمير فى قصة «التمساح والأمير». والواقع أن المصريين القدماء عرفوا نظرية التناسخ كما عرفها الهنود، ولعلها سبب انتشار هذا اللون من القصص حول الحيوان فى قصص الشعبين وأساطيرهما، وإن كان علماء الفولكلور الغربيين يميلون إلى إبراز الأثر الهندى فى الأدب العربى الشعبى دون التفات إلى فرضية التأثير المصرى الفرعوني، ونظرية التناسخ ترى أن الروح الإنسانى يمكنه أن يسكن جسم الحيوان، فهو يتصرف تصرف الحيوان لكنه فى نفس الوقت روح إنساني، فهو إذن يتكلم ويفكر بلغة الإنسان، والواقع أن هذا التفسير الأسطورى لحديث الحيوان لا مجال له إلا لخدمة الأهداف المقصودة من وراء الأسطورة، وهو لا يغير من الحقيقة العلمية الثابتة التى تؤكد أن الحيوانات تتحدث إن لم يكن بالكلام فبالحركة أو بالرقص لتستطيع أن تصل إلى تفاهم مع أفراد الفصيلة، ويقول «فانس باكار» لا ينبغى أن نذهب بعيدًا بحثًا وراء أدلة قاطعة على وجود التفاهم بين الحيوانات، فالأرنب يخبط بقدميه الخلفيتين تعبيرًا عن الغضب، والفيل يرسل صيحات معينة عند الفزع، والواقع أن كل أمٍّ من الحيوانات البرية تقريبًا يمكنها أن تصدر الإشارات إلى صغارها، فالدجاجة يمكنها أن تفعل ذلك بواسطة النقيق، والطير بواسطة التغريد. أما «ألف ليلة وليلة» فكان للحيوان فيها نصيب كبير، وأول ما يصادفنا ما جاء فى المقدمة التى قالها الوزير لابنته شهرازاد وهو يثنيها ع الاندفاع والتطوع ضحية للملك شهريار لتنقذ بنات جنسها من شره . قال أبوها: أخشى عليك يا ابنتى أن يحصل لك ما حصل للحمار والثور مع صاحب الزرع. ويقص على ابنته كيف أراد الحمار أن ينقذ الثور من شقائه فى الحرث، وقصص أخرى مثل الطاووس والطاووسة، والبطة والطيور، والقرد والنجار الذى أراد أن ينقذ صاحبه فقتله لأنه لم يفهم ما أراد، حينما يروى رؤيا فيفسرها المنجمون ويقصون قصة الفأر مع السنور. كما نجد أيضا قصص الحيوان فى قصة حاسب كريم الدين حيث يلعب الحيوان دوره الذى لعبه فى الأساطير والديانات القديمة – فيصبح وسيلة لتفسير كثير من غوامض الأخرة وأسرار الدنيا، فهذه حية فى جوفها جهنم، وهذا حوت يحمل الأرضين السبع، وهذان أسد وثور يحرسان مجمع البحرين وهكذا. أما عالم الطيور والحيوان لدى سليمان فهو ماثل فى كثير من صفحات ألف ليلة. وللحيوان فى هذا الكتاب أدوار مختلفة فى علاقاته بالإنسان، أحيانا تكون إيجابية وأخرى عدوانية. وقد قام علماء النفس فى قسم سلوك الحيوان بالمتحف الأمريكى للتاريخ الطبيعى بتسجيل صوت تمساح على أسطوانة، ثم حملوا الأسطوانة قريبًا من بركة ينام فيها تمساح آخر، وعند إعادة التسجيل استثير التمساح ساكن البركة، وأخذ يضرب الماء متحفزًا للقتال وعلا خواره كأنما يحذر بأنه السيد الوحيد فى هذه البقعة، ولقد قضى كثير من العلماء -خاصة الألمان- سنوات طوال يبحثون فى متحف الحيوانات بحثًا عن أدلة تدل على وجود لغة للحيوان، واستطاع أحدهم أن يسجل سبع كلمات للديكة، وتمكن آخر من تمييز ست كلمات للخيل وثلاثة أنواع من الصهيل، كما قام ثالث بتسجيل خمس عشرة كلمة اعتبرها من لغة القطط الأليفة. والفرق الشاسع بين الإنسان والحيوان يتركز أساسًا حول قدرة الإنسان على استخدام لغة التفاهم. ونحن نتكلم بالرموز، فكل كلمة ننطقها تعبر عن أشياء أو أفعال أو أحداث أو ما إلى ذلك، ورموز الكلمات هذه هى المواد الخام التى نستخدمها لبناء أفكارنا. ونحن نعلم أنه لا يوجد حيوان له لغة مطبوعة بالحروف الهجائية ذات قواميس أو قواعد لغوية غير الإنسان، ولكن علينا أن ندرك أن الفارق بين الإنسان والحيوان فى اللغة ليس شاسعًا جدًّا كما كنا نعتقد, وأن لغة إنسان الغاب تعتبر أقرب لغات الحيوان إلى لغة الإنسان. ولحكايات الحيوان المتداولة فى التراث الشعبى كثرة من النوادر التى تدور حول أبطال هذه الحكايات الحيوانية. هذا التنوع لا يعود فقط إلى الاهتمام بطبيعة الحيوانات وصفاتها، لكنه يجيء أيضًا من العادة المتأصلة فى تأليف قصص الحيوان عند رواة القصص فى جميع الأقطار، وعلى هذا فإن قصص الحيوان لا ترجع فى أصلها إلى الاختراع المتصل بما تثيره حياة الحيوان فقط، لكنها ترجع إلى ذلك النشاط الفنى الذى تمتد أطرافه من رواة الحكاية البارعين فى الشعوب البدائية إلى مؤلفى الخرافات الهندية والكلاسيكية، والمؤلفين المثقفين لخرافات العصور الوسطى. فحقيقة حديث الحيوان والطير حقيقة علمية لا شك فيها استعملها أصحاب الأسطورة والأدب الشعبى فى ثنايا عملهم دون أن يخالفوا كثيرًا الحقائق التى قررها العلم.