على الرغم من انتشار الظاهرة «الترامبية» فى مختلف دول العالم بشكل أو بآخر، فإن النسخة الأمريكية بلا شك هى الأشد تأثيرا والأكثر جذبا للأنظار. فقد أكسب المرشح الجمهورى دونالد ترامب الانتخابات الأمريكية زخما إعلاميا وحالة من الإبهار والإثارة افتقدتها المنافسات الرئاسية فى الماضي. فعلى مدار الأشهر الماضية، اعتاد ترامب إطلاق التصريحات الرنانة سواء فيما يتعلق بالشأن الداخلى أو السياسة الخارجية ودور أمريكا كلاعب رئيسى على الساحة الدولية. ولكن الأيام الأخيرة شهدت تحولا جديدا فى خطاب ترامب الانتخابى لم يعتد عليه سابقوه من المرشحين لدخول البيت الأبيض، ألا وهو التراجع وبكل بساطة عن تصريحاته ومواقفه واتهاماته لمنافسيه، بدون أن يخشى من تأثير ذلك على مصداقيته أمام الناخبين، خاصة فيما يتعلق بالفئات التى نجح فى إثارة غضبها، بل وإثارة الفتنة ضدها، على مدار حملته الانتخابية. ففى تصريحات جريئة ربما تحمل الكثير من الحقيقة، وجه ترامب اتهامات ساخنة للرئيس باراك أوباما وهيلارى كلينتون المرشحة الديمقراطية للرئاسة بأنهما وراء تأسيس تنظيم داعش فى الشرق الأوسط وإثارة الاضطرابات وإطلاق الشرارة الأولى للعنف الذى دمر مناطق كثيرة فى الشرق الأوسط، وتسبب فى حالة من الإعياء الاقتصادى لأهم القوى الإقليمية فى المنطقة، ولكنه لم يتمسك بهذه التصريحات كثيرا، وسرعان ما استجاب لضغوط القيادات الحزبية الجمهورية وتراجع سريعا عن هذه الاتهامات، ولم يخجل من الاعتراف بأنه كان «يتهكم» على حد تعبيره. ولم يكن هذا الموقف أول واقعة تشهد تراجع ترامب عن مواقفه السابقة، فبعد انتقاده العنيف لحلف شمال الأطلنطى «الناتو» ووصفه بأنه مؤسسة قديمة وربما متهالكة، محذرا من أنه يرفض الإسهامات المالية الضخمة التى تنفقها بلاده على أمثاله من المؤسسات الدولية، تراجع خلال خطابه حول الإرهاب فى ولاية أوهايو الأمريكية قبل أيام عن هذه الاتهامات، ليبدى استعداده التام للتعاون مع حلف الأطلنطى للقضاء على داعش ونزع فتيل الإرهاب فى الشرق الأوسط. كما أن موقفه تجاه العراق بدا مهزوزا كذلك، فقد أكد مرارا معارضته لفكرة غزو العراق من الأساس، إلا أنه عاد ليؤكد رفضه للخروج منها! وعندما ننظر لتصريحاته الأخيرة حول التعاون مع مصر والدول الحليفة فى المنطقة لمواجهة إرهاب داعش وإعادة الاستقرار للمنطقة، لابد وأن نتعامل معها بحذر شديد، رغم إيجابياتها، لأنه قد يكون بصدد التراجع عنها إن لم يكن اليوم فغدا، أو ربما بعد توليه مقعد الرئاسة لأكبر قوة عالمية، خاصة وأنه لن يكون وحده صاحب القرار السياسي، وخاصة ما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة. أما على الصعيد الداخلي، فقد أثار المرشح الجمهورى الفتنة الكبرى عندما أيقظ مارد العنصرية من ثباته العميق واستغل أول شرارة حديثة للعنصرية التى اندلعت فى ميزورى فى أغسطس 2014، ليشعل المزيد من الغضب ضد الأقليات وضد المهاجرين من الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. كما تعهد بالوقوف ضد أى محاولة لحظر الأسلحة الصغيرة، وهو تحرك يخدم تجار السلاح بالأساس فى بلد يسقط فيها عشرات القتلى سنويا ضحية عمليات القتل العشوائى على يد مختلين عقليا أو مجرمين أو عناصر متطرفة، وخاصة تلك المعروفة ب«الذئاب المنفردة». ولكن هل كل تلك المعطيات تعنى أن هيلارى كلينتون هى المرشح الأفضل للرئاسة؟ بالطبع لا، فهيلارى ليست سوى امتداد لسياسات أثبتت فشلها على مدار الأعوام الماضية، خاصة على صعيد السياسة الخارجية. كما أنها لا تتمتع بنزعة أوباما الحقيقية لخدمة المواطنين الأقل حظا من الأقليات والفقراء وتوفير خدمات وظروف معيشية أفضل بالنسبة لهم، فهى فى الواقع تبنى حملتها الانتخابية على نجاحات حققها زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون أو تلك التى حققها أوباما، بدون أن يكون لها أى إنجاز أو مبادرات ناجحة خلال فترة عملها كوزيرة للخارجية، أو خلال شغلها لمقعد نيويورك فى مجلس الشيوخ الأمريكي. وفى نهاية الأمر، وبغض النظر عن الخطابات الرنانة وأجواء الدعاية الانتخابية التى تعيشها الولاياتالمتحدة فى الوقت الراهن، ومع بداية العد التنازلى لموعد الانتخابات، لابد وأن ندرك جيدا أنه فى دولة تحكمها المؤسسات مثل أمريكا، لا مكان لسياسات الفرد الواحد. فالاستراتيجية الأمريكية تجاه العالم ثابتة وتسير بخطى محسوبة بغض النظر عن سكان البيت الأبيض. ولا بد أن نذكر فى هذا الإطار أن تعبيرات مثل «الشرق الأوسط الكبير» و«الفوضى الخلاقة» ظهرت خلال فترة حكم الرئيس الجمهورى الأسبق جورج بوش، ولم يبدأ تنفيذها خلال حكم الرئيس الديمقراطى الحالى أوباما، وهو ما يؤكد أن مبدأ أمريكى الأساسى هو «أنا ومن بعدى الطوفان». أما إذا فاز ترامب وحاول الالتفاف على هذه المباديء العامة وتقويض نفوذ المؤسسات التقليدية لصناعة القرار الأمريكى من كونجرس ومؤسسات عسكرية وأمنية ومخابراتية ووسائل إعلام ومراكز دراسات وأبحاث، فسوف تكون المواجهة عندئذ حتمية، وستكون الأولى من نوعها فى التاريخ الأمريكي.