لكل منا فى حياته.. شخصيات أثرت فى تفكيره.. وسلوكه.. وشخصيته.. وأصبحت له مثلاً فى حياته. وهو ما كان عندما ذهبت إلى الدراسة فى إنجلترا، وأنا ضابط صغير، برتبة رائد .. ابن بورسعيد، الذى شهد العدوان الثلاثى وهو طفل صغير شاهدت المظلات البريطانية تهبط فى مطار الجميل، ليبدأ، معها، الهجوم الإنجليزي- الفرنسى على مدينتى .. ونحن، وكل أهالى مدينة بورسعيد، محبوسون تحت الأرض لمدة ثلاثة أيام، حتى 2 نوفمبر 1956، تاريخ وقف إطلاق النار. لم يمر على وقف إطلاق النار أكثر من ساعة، حتى أخذنى والدى معه، للذهاب إلى جدتي، فى شارع الثلاثيني، للاطمئنان عليها. وفى الطريق، وفى كل ناحية منه، كان هناك شهيد أو شهيدان دماؤه على الأرض وخوذته بجانبه وبندقيته النصف آلى مازالت فى يده. وأمرنى والدى بالركض فوراً إلى منزلنا، وإحضار كل ما يتسنى لى من الملايات، لتغطية شهدائنا ، ونفذ مخزون الأغطية والملايات والمفارش فى المنزل، ولم ينته عدد الشهداء من جنودنا البواسل. كل ذلك حملته معي، وأنا ذاهب إلى إنجلترا ضابط مصري، من ابناء بورسعيد، أحمل كل هذه المشاعر، تجاه هذه الدولة، التى سأقيم وأدرس بها. وبعد شهرين من وصولى إليها، وأنا أعيش فى ريف إنجلترا، فى كليتى تعلمت الدرس الأول من دروس بعثتى أن هناك فرقاً بين الشعب الإنجليزي، الذى أصبحت أحترم ثقافته، وتاريخه، وتقاليده وبين الحكام والساسة منه. وفى هذه الأثناء، ظهرت مارجريت تاتشر على السطح .. ابنه البقال الإنجليزى التى كانت تعيش فى إحدى القرى الإنجليزية البسيطة وتتناوب مع والدها فى العمل بمحل البقالة ونالت منحة تفوق مجانية للالتحاق بجامعة أكسفورد، ونالت درجتها العلمية فى مجال الكيمياء، بتفوق. ونظراً لنشاطها فى المجالات العامة والسياسة، أصبحت عضوة فى حزب المحافظين، حتى تولت زعامته فى فبراير 1975. ليفوز حزبها، بعد ذلك، فى الانتخابات فى مايو 1979، لتصبح مارجريت تاتشر «أول رئيسة وزراء» فى تاريخ بريطانيا. ومنذ اليوم الأول. ومن خلال شاشات التليفزيون أعجبت بهذه الشخصية والتى أصبحت شخصية خارقة، ليس فى بريطانيا فقط، ولكن فى نظر العالم بأسره، حتى أطلق عليها لقب «المرأة الحديدية».قادت تاتشر السياسة الاقتصادية لبريطانيا، بتطبيق قوانين لخصخصة الشركات العامة، إصلاح قوانين الضرائب، وتقليص دور اتحادات العمال، كما قضت على مشكلة إضراب عمال مناجم الفحم، فحققت انتعاشاً اقتصادياً كبيراً فى البلاد. وكان انتصارها العسكرى واسترداد جزر الفوكلاند من الأرجنتين، سبباً فى إعادة انتخابها لفترة ثانية فى عام 1983، بأغلبية ساحقة. ثم أعيد انتخابها لفترة ثالثة فى 1987. وطوال فترة دراستى فى إنجلترا، وحتى بعد عودتى إلى القاهرة، وأنا أتابع هذه الشخصية القوية، وما لها من «كاريزما» حتى صارت مثلاً أعلى لى فى الإدارة، وقوة الشخصية، واتخاذ القرار، والثقة بالنفس، مصحوباً بسلامة ودقة اللغة فى جميع خطبها أو تصريحاتها. وجاء يوم تخرجى من كلية كمبرلى الملكية، وهو ما جرى التقليد، طيلة السنوات السابقة، أن تحضره ملكة بريطانيا بشخصها، إلا أن ظروفاً مرضية حالت دون ذلك، فى هذا العام، ففوضت رئيسة الوزراء، مسز تاتشر، للحضور نيابة عن جلالة الملكة. وكان البروتوكول يقضى بأن يجلس على يسار الملكة، أقدم الدارسين، وهو من كان ضابطاً بريطانياً فى دفعتي. ولما كان الجميع يعلم بعشقى لهذه الأسطورة، فقد تحدثوا معه فى إمكانية إتاحة مكانه لي، بصفتى الأول على الخريجين، فلم يمانع الضابط الإنجليزي. وقبيل دخولها لقاعة الاحتفالات، شرح لها مسئولو المراسم، بأن من يجلس إلى يسارها اليوم، هو ضابط مصري، وترتيبه الأول فى التخرج، ويعتبرك مثلاً أعلى له فى الإدارة والسياسة. مضت ساعة ونصف، هى مدة الاحتفال، تحدثنا فيها كثيرا عن مصر، وعن فترة حكم عبد الناصر، وبداية حكم السادات، لينتهى الحفل، وقد ازددت إعجاباً وإيماناً بشخصية مسز تاتشر، التى استحقت لقب «المرأة الحديدية» لقوتها وصلابتها. وعدت إلى مصر، وظللت أتابع أخبارها، حتى استقالتها فى عام 1990 عن رئاسة الوزراء بعد 12 عاما، هى أطول مدة حكم لرئيس وزراء بريطانى فى القرن العشرين، وكذلك استقالتها من رئاسة حزب المحافظين، وهى فى قمة مجدها، حيث خشى البعض من أن يحولها استمرارها فى الرئاسة إلى طاغية. ثم شاهدت بعد ذلك الفيلم الذى انتجته هوليوود بعنوان «المرأة الحديدية» ليروى قصة حياة مارجريت تاتشر، ونالت عنه الممثلة ميريل ستريب، جائزة الأوسكار، عن تجسيدها لشخصية مسز تاتشر، وحزنت كثيراً وأنا أرى مشاهد مرضها فى أيامها الأخيرة، بمرض الزهايمر اللعين، والذى أفقدها القدرة على تذكر أحداث الماضي. أعادت هذه المشاهد إلى ذاكرتي، كرهى لهذا المرض اللعين، الذى أصاب والدتي، رحمة الله عليها، فى آخر سنواتها، فكنت أتقدم إليها لأقبل يدها، فتطيل النظر لي، ولا تعرفني. فلعنت هذا المرض الذى أصاب والدتي، وأصاب مثلى الأعلى فى الإدارة والسياسة. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج