بينما دول العالم خاصة الغربية منها كانت تعلن تعافيها الجزئى من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وخروجها من الركود الذى أصابها خلال عامى 2008 و2009. إذا برئيس الوزراء اليونانى الذى تسلم مقاليد الحكم فى أكتوبر 2009 يعلن أن مراجعة سريعة من قبل حكومته للموازنة العامة للدولة أظهر أن العجزفي هذه الموازنة12,7% من الناتج المحلي الإجمالي اليوناني في عام2009 بدلا من التقدير الذي أعلن سابقا والذي كان يضع هذا العجز عند مستوي أقل من4% من هذا الناتج. وبدأت علي الفور من ثم مضاعفات تتمثل بتساؤل رئيسي أثير في أسواق المال الدولية يتعلق بمدي قدرة اليونان علي الاستمرار في خدمة دينها العام البالغ نحو408 مليارات دولار أي ما يوازي113% من ناتجها المحلي الإجمالي, بما يعنيه هذا التساؤل من إمكانية التردد أو الإحجام عن إمداد اليونان بالمزيد من الأموال وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلي إعلان الدولة عدم قدرتها علي السداد وإشهار إفلاسها. ونتيجة لأن اليونان هي أحد أعضاء منطقة العملة الأوروبية الموحدة( اليورو) كان من الطبيعي أن تتجاوزها الأزمة إلي بقية دول منطقة اليورو(15 دولة أوربية أخري) خاصة أن هناك بلدان تعاني من ثقل حجم الدين العام وارتفاع العجز في موازنتها أيضا مثل أسبانيا والبرتغال وأيرلندا وإيطاليا, ثم تعدت الأزمة هذه المنطقة إلي العالم أجمع بحكم أهمية هذه المنطقة التي تشكل مجتمعة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية, وبحكم الدور المهم الذي بات يلعبه اليورو في الساحة الاقتصادية الدولية باعتباره ثاني أهم عملة احتياط دولي بعد الدولار الأمريكي, إضافة إلي زيادة ثقل حجم الدين العام في العديد من البلدان خارج أوروبا أيضا. أوروبا الموحدة: قصور تظهره الأزمة ربما كان أهم ما أظهرته الأزمة اليونانية هو أن التجربة الأوروبية في الاندماج الإقليمي وبرغم كل النجاحات التي أحرزتها تعد كغيرها من التجارب الإنسانية عرضة لأوجه قصور عدة, إذ مرة أخري تثبت الحياة أنها أكثر تنوعا وتعقيدا وخصوبة من أي تصورات ذهنية مسبقة مهما كانت درجة الحذر التي تشكلت في ظلها هذه التصورات, وتثبت مرة أخري حكمة أنه ينبغي علي أوروبا كغيرها أن تتعلم من خلال الممارسة وخاصة في ظل الأزمات الكبري التي تعد السبيل الإنساني التقليدي والأمثل للتأمل وإعادة التفكير في كيفية تجاوز الأزمات بصياغات إنسانية جديدة سيتجاوزها الزمن هي الأخري حتما حينما تحدث الأزمة الكبري التالية. إذ كان من الطبيعي أن تتطلع اليونان إلي بقية الشركاء في منطقة اليورو لمدها بالعون للتغلب علي أزمتها خاصة في ظل تزايد المضاربة علي ديونها, فمع تزايد المخاطر بات المستثمرون الدوليون يطالبون بهوامش فائدة واسعة علي سندات الخزانة اليونانية لأجل عشر سنوات, حيث بلغت نسبة الفائدة المطلوبة ما يتجاوز6% خلال شهر مارس الماضي بينما هي علي السندات الألمانية لنفس الأجل لا تتجاوز3%, وهو ما يعني بالضرورة زيادة المصاعب أكثر فأكثر أمام اليونان علي سداد ديونها ومفاقمة العجز في موازنة الدولة العامة. ومنذ البداية بدا أن هناك حالة غضب أوروبي واضحة خاصة في ألمانيا من عدم التزام اليونان باتفاقية الوحدة الأوروبية وما تضعه من قيود واضحة بألا يتجاوز العجز في الموازنة العامة نسبة3% من الناتج سنويا, وألا يتجاوز الدين العام60% من هذا الناتج. بل كان الغضب الألماني أشد حينما ظهر أن الحكومات اليونانية السابقة وعلي مدي تسعة أعوام مارست تدليسا واضحا وتحايلا ماليا بالاشتراك مع بعض البنوك الأمريكية لتظهر العجز في الموازنة والدين العام علي غير حقيقتهما. واشترطت دول اليورو وبشكل خاص ألمانيا علي اليونان أن تعالج مشكلاتها بنفسها أولا باتباع خطة تقشف مالي شديدة قبل المطالبة بالعون, ناهيك عن العديد من التصريحات التي أظهرت عملية الوحدة الأوروبية وخاصة النقدية منها في أسوأ مظهر لها بما شكل ضررا فعليا بمكانة اليورو الذي بدأ في الهبوط أمام بقية العملات ليصل إلي أقل مستوي له أمام الدولار خلال أكثر من عشرة أشهر, وإضرار رمزي كبير بقيمة وأهمية الوحدة الأوروبية كأنجح تجارب التكامل الإقليمي. إذ دعا البعض إلي طرد اليونان من منطقة العملة الموحدة, بينما ذهب بعض أعضاء البرلمان الألماني من حزبي التحالف الحاكم إلي حد مطالبة اليونان بعرض بعض جزرها غير المأهولة للبيع سدادا لديونها. وباتت هناك فوضي أوروبية كبيرة غير مشهودة, ما بين تشدد ألماني( أكبر اقتصاد أوروبي) وتأكيد فرنسي( ثاني أكبر اقتصاد) يؤازره البنك المركزي الأوروبي برئاسة الفرنسي كلود تريشيه علي ضرورة تقديم الدعم لليونان والحفاظ علي المكانة الدولية للعملة الأوروبية. وفي ظل هذه المطالب اتجهت الحكومة اليونانية بالفعل إلي اتباع أكبر خطة تقشف مالي في تاريخها لخفض عجز الموازنة في العام الجاري إلي8,7% من الناتج المحلي, وتشمل هذه الإجراءات رفع الضرائب وخفض رواتب موظفي القطاعين العام والخاص. ورفعت الحكومة الضرائب علي الوقود للمرة الثانية في شهر واحد, كما ألغت العلاوة السنوية التي يتقاضاها الموظفون, ورفع سن التقاعد إلي63 عاما, إضافة إلي رفع ضريبة القيمة المضافة مع زيادة قدرها20% في الرسوم المفروضة علي بعض المنتجات الكمالية. ومع ذلك ورغم حرص رئيس الوزراء اليوناني علي إقرار هذه الإجراءات قبل زيارته لألمانيا في نهاية الأسبوع الأول من شهر مارس الماضي, فإن التردد وجو الشائعات ظل يملأ الفضاء الأوروبي. ويرجع هذا في حقيقة الأمر إلي أن اتفاقية الوحدة الأوروبية( ما يعرف باتفاقية ماسترخت) لم تتحسب لأمر الأزمات المالية والاقتصادية وكيفية مواجهتها, ولم تنشأ أي مؤسسة أو آلية للتعامل معها, ناهيك عن أن هناك مواد واضحة في الاتفاقية تحظر التدخل للقيام بعمل هو من صميم أعمال الحكومات المركزية في الدول الأعضاء. علاوة علي هذا فليست هناك أي إجراءات عقابية واضحة بحق الدول التي لا تلتزم بالقيود المتضمنة في الاتفاقية حول نسب عجز الموازنة والدين العام ومعدلات التضخم. وتمثل الحل في نهاية المطاف في اتفاق بين رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوربي عند اجتماعهم يومي25 و26 مارس بالاتفاق علي خطة للانقاذ المالي تكون بمثابة ملاذ أخير لليونان بعد استنفاذها كل الوسائل الأخري المتاحة أي عندما تفتقر بشكل واضح إلي التمويل عن طريق السوق, وبحيث تكون الخطة قائمة علي الإقراض الثنائي من قبل الدول الأعضاء في ظل الاتفاق علي سقف مالي محدد, علاوة علي أن الخطة دعت إلي إشراك صندوق النقد الدولي في أي خطة للإنقاذ المالي. وجاء هذا أيضا بعد تجاذب شديد ما بين ألمانيا من ناحية وفرنسا وبعض بلدان أوروبا الأخري بمساندة من البنك المركزي الأوروبي بعدم إشراك صندوق النقد الدولي لإضرار ذلك رمزيا بأوروبا وتشكيكه في قدرتها علي معالجة أزماتها. وبينما كانت ألمانيا في بداية الأزمة أميل إلي عدم إشراك الصندوق إلا أنه يبدو أنها مالت لإشراك الصندوق باعتبار أن شروطه المعروفة ستكون مهمة في إجبار الحكومة اليونانية علي اتباع خطط تقشف مالي واضحة, بل وأشد مما اتبعته حتي الآن.