«المصلحة».. الكلمة الأساسية التى غلبت على بيان أحمد حسين الشرع الملقب باسم «أبو محمد الجولاني» الذى كان حتى أيام قلائل زعيم «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة» فى سوريا حتى إعلانه فى 28 يوليو الماضى تشكيل كيان جديد يحمل اسم «جبهة فتح الشام». وأثار هذا الانشقاق عن تنظيم القاعدة، الذى يتزعمه أيمن الظواهرى، تساؤلات حول الأسباب والأهداف وراء هذه الخطوة، واعتبر البعض أن «فك الارتباط» هذا مجرد «خداع استراتيجي» أو «تغيير فى المسميات» فقط من أجل محاولة إدخال النصرة فى جبهة ما تطلق عليه الولاياتالمتحدة اسم «المعارضة المعتدلة» فى الصراع السوري. الجولانى نفسه وضع مجموعة من الأهداف أو المصالح وراء هذا الانفصال منها تشكيل جسد موحد للتنظيمات المسلحة فى سوريا، ودفع الذرائع التى يتذرع بها المجتمع الدولى فى قصف سوريا بحجة استهداف النصرة. وهناك مجموعة من المقدمات المنطقية التى وضعت أساسا لهذا التحول الاستراتيجى فى تنظيم القاعدة، منها أن التنظيم الذى أسسه أسامة بن لادن فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى شهد مجموعة من الانشقاقات والأفرع والأذرع فى عدد من الدول خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وغزو العراق فى 2003، ومنها «القاعدة فى بلاد الرافدين»، حيث أعلن أبو مصعب الزرقاوى مبايعة بن لادن، والقاعدة فى جزيرة العرب، وفى المغرب الإسلامي.. إلخ، حتى ظهر أبو بكر البغدادى زعيم القاعدة فى العراق، وأعلن فى وقت لاحق عن تأسيس تنظيم «داعش» الإرهابي، مما دفع «جبهة النصرة» بزعامة الجولانى إلى أعلن تنصلها من التنظيم الجديد، وهو ماأكد الظواهرى نفسه. وبعيدا عن هذه الانشقاقات فى التنظيم الأكبر، كانت البدايات مع اندلاع الصراع السورى عندما فوض أبو بكر البغدادى الجولانى لتولى تنظيم الخلايا الإرهابية فى المنطقة، وظهرت النصرة بسبب قدرتها على التمويل والإمداد بالسلاح وتوفير المقاتلين. وفى 2012، أيضا ظهرت جماعة خراسان التى تعتبر امتدادا للقاعدة، إلا أن النصرة نفت وجود هذه الجماعة، وتم إعلان تشكيل «النصرة» فى 23 يناير 2012، وفى نوفمبر، أعلنت الولاياتالمتحدة تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية، وذلك بعد خطوة مماثلة من قبل مجلس الأمن الدولى ودول أخرى. وفى بداية 2015، وردت تقارير تشير إلى قيام بعض الدول الداعمة للتنظيم بطلب انفصال النصرة عن القاعدة، وفى مارس 2015، نفت النصرة الانفصال، وفى هذا التوقيت، أصدر الظواهرى تعليماته للجولانى بإتباع 5 أهداف أبرزها التعاون مع الجماعات الأخرى، واستخدام المناطق الاستراتيجية فى سوريا لبناء قاعدة قوية للتنظيم، ووقف أى أنشطة تتعلق بشن هجمات على الغرب، ثم عاد الظواهرى ليطالب النصرة بالانفصال، وخلال الشهر الماضى أعاد الطلب مجددا، وهو ما دفع الجولانى إلى تأسيس «جبهة فتح الشام». وعلى الرغم من تشديد الجبهة الجديدة على أنه ليست لها أى علاقات خارجية، فإن تقارير إعلامية تشير إلى أن أحد أسباب هذه الانفصال المزعوم سببه مطالب الدول الداعمة بالمال والسلاح للجولانى وأتباعه. ويعتبر هذا الظهور الثالث لتلميذ أبو مصعب الزرقاوى والبغدادي، بعد ظهورين إعلاميين فى قناة «الجزيرة» القطرية، لكنه هذه المرة يكشف وجهه، ويرتدى الملابس العسكرية، ليشكر زعيمه الظواهري. ومن بين أحد الأسباب التى ربما تكون قد أدت إلى هذا التحول، أن «النصرة» تعتبر الحاضر الغائب فى الصراع السوري، بل على مستوى العالم، حيث تمكنت داعش من خطف البساط من تحت أقدامها وأقدام التنظيم الأم، بعد سلسلة من الهجمات الإرهابية التى جعلت الغرب فى حالة تأهب قصوى وطوارئ. النصرة تصف عناصر داعش بأنها «كلاب جهنم» و»خوارج»، فى الوقت الذى يتهم فيه داعش قيادة القاعدة بالانحراف عن الطريق، لكن الخيط المتين الذى يربط تفكير هذه الجماعات، دفع «النصرة» لتأييد اعتداءات داعش الإرهابية بعد تنفيذها هجمات باريس. داعش كانت هى الأقوى، وفى الواجهة، حيث تواصلت الضربات الأمريكية والروسية لقيادة «النصرة» فى إدلب فى نهاية 2014، لدرجة دفعت المسئولين الغربيين إلى الاعتقاد أن الجماعة لم تعد تشكل خطرا، لكن الخبراء يرون أنها تمثل تهديدا طويل المدى للأمن العالمي، ولهذا، يقول أحد الخبراء البريطانيين إن القاعدة تلعب لعبة أطول من داعش. وتحت ضغط الضربات الجوية الأمريكية والروسية، تكبدت «النصرة» خسائر فادحة، وهو ما جعل الجولانى يعترف بتأثير هذه الضربات، وبمجرد الإعلان عن التنظيم الجديد، تم إسقاط طائرة روسية فى ريف إدلب، وهو المكان الذى تسيطر عليه جبهة النصرة. روسيا وأمريكا أكدتا من جانبهما أن الجبهة الجديدة ستظل هدفا للضربات الجوية، واعتبرت إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما أن الإعلان عن تأسيس الجبهة الجديدة «ببساطة مجرد تغيير للمسميات»، وأن تقييم جماعة «جبهة النصرة» لم يتغير رغم هذا الإعلان. جيمس كلابر، رئيس المخابرات الوطنية الأمريكية، شدد على أن الانفصال خطوة علاقات عامة، وأن الهدف «خلق صورة جديدة، صورة أكثر اعتدالا فى محاولة لتوحيد ودعوة فصائل وجماعات أخرى تقاتل فى سوريا». وتبدو «القاعدة»، فى ظل قدرتها على الاستمرار والانتشار والصمود خصوصا فى الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، وقدرتها على تنفيذ هجمات وحشية شكلت «كابوسا» للعالم أجمع طوال 18 عاما، أشبه بالساحرات فى القصص الخيالية، بقدرتها على التحايل من أجل مصلحتها أيا كانت، على الرغم من أنها لا تقل فى دمويتها وارتكابها جرائم ضد الإنسانية عن داعش.