قليلون في حياتك المهنية قادرون على اسعادك والتأثير فيك إنسانيًا ومهنيًا، وأن يدللوا عمليا، دون صخب ولا طنطنة، على أنهم شعلة نشاط وعطاء غير محدود بسقف، ومصدر للطاقة الإيجابية المستمدة من كفاءة ومهارة قلما تجدها لدى كثيرين في زماننا هذا، الذى تراجع فيه مقياس الكفاءة التي استبدلت بمهارات التزلف، والنفاق، وتصعير الخدين الأيمن والأيسر ومعهما بقية الجسد إن تطلب الأمر، لترتقى وتعلو لتصبح من أهل الحظوة والمناصب الرفيعة، والنجومية اللامعة. قليلون هم من تفتقد طلتهم ووجوههم البشوشة الصبوحة، وحسهم الإنساني العالى، وبصمتهم إينما حلوا واستقروا، واخلاصهم حتى النفس الأخير، اخلاص في العمل، وفى المحبة، وفى الصداقة، وعدم التلون وارتداء قناع وراء قناع يخفى وراءه سجايا وصفات تماثل طبائع وحوش الغابة التي ربما تكون أحيانا أكثر رقة وحنانا منهم. من بين هؤلاء القليلين يطالعك اسم سعيد عيسى الذى غادر دنيانا عائدًا إلى دار المستقر والخلود قبل أيام، ولا تزال ترن في أذني كلماته الودودة والتي تبدأ بجملة «ازيك ياصديقى» لنستهل بها محادثاتنا الهاتفية ولقاءاتنا، فهى عبارة تختزل شخصية الراحل بكل ما فيها من تواضع، واعتزاز بالذات فقد اخذ على نفسه عهدًا ألا يهينها بأى شكل من الاشكال، فضلا عن مقدرة فائقة على الإنجاز السريع وبإتقان يلفت النظر، ولم يكن يقبل بأقل من الجودة، وكان يحزنه كثيرًا تراجع مستوى الأجيال الشابة في بلاط صاحبة الجلالة وافتقارهم للانضباط ، والثقافة، وتطوير مهاراتهم المصابة بالتكلس والجمود وعدم الاستعداد لبذل الجهد اللازم لتدقيق المعلومات والتأكد من صحتها، فطابع السرعة هو الطاغى بحكم التأثر بإيقاع المواقع الالكترونية اللاهثة خلف الاخبار، واغفال تمحيص ما يصلها من أنباء وتقارير لكى لا تفوتها الأحداث. عرفت سعيد عيسى صحفيا متحمسا، جادًا، متمتعا بروح دعابة ومرح قد يحسبها البعض متعارضة مع شخصيته الجادة الصارمة، وانفعاله الذى كان يظهر فقط عندما لا يعجبه ما يقع تحت يده من موضوعات واخبار غير جديرة بالنشر، وغير مخدومة معلوماتيا، وصياغتها سيئة، حينها كان يغضب، وكنت اتفهم غضبه النابع من انتمائه لجيل تربى وتشرب معايير الاجادة والاجتهاد في عمله، وأعترف بأنه كان يحترق من أجل اخراج أحسن ما يختزنه من فنون وخبرات صحفية تراكمت عبر العمل في إصدارات عديدة داخل مصر وخارجها. فأنت أمام انسان ينفذ إلى عقلك وروحك بدون استئذان، ويمتعك بلياقته الفكرية والثقافية، والتزامه الصارم، الذى لم يكن يحيد عنه سوى فى الملمات والأزمات الضاغطة. إن سعيد عيسى كان عنوانا بارزًا لجيل منضبط يُقدر معانى الالتزام والمسئولية ولا يتعاطى مع الأمور، مهما صغرت، باستخفاف واستهانة، جيل مشكلته الأساسية أن الاجيال الجديدة تتخفف من هذه القيم، وتتخذ من الاستسهال منهجا وطريقا، ولم تستطع أن تتواصل مع من سبقها بحجج وذرائع أكثرها غير منطقى فى نظر الجيل الذى يطلقون عليه الجيل القديم. إن سعيد عيسى كان عابرًا للأجيال، وعنده ملكة الاقتراب من الجيل الأحدث في مهنة البحث عن المتاعب، وتكفل بارشاد العديدين للطريق الصحيح، ولم يكن يضن بنقل خبرته لهم عن طيب خاطر دون انتظار لمقابل، فقد كان يعى أن الأجيال الصحفية الشابة محرومة من القدوة والمثل الجيد الذى يستحق اتباعه والسير في ظلاله وهداه، وأن واجبه الأخذ بيدهم وتعليمهم كنوع من رد الجميل للذين تكبدوا عناء تربيته مهنيا ومعه اخرون، وادراكا لمبدأ أن تواصل الأجيال كفيل بتحقيق التقدم الذى ننشده منذ عقود خلت وبدونه لن نبلغه. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي