كتب:محمد محمد مستجاب قالت جدتي: إن الأعداء قد صلبوا الشمس في منتصف السماء, والقمر خدعهم وهرب مستترا خلف الجبال فولد الليل. ارتديت بذلتي الكحلي الأنيقة, في المرآة نظرت إلي( الكرافت) التي اشتريتها بمائه, وخمسين جنيها, كي تزركش صدري لهذه المقابلة, ضغطت حبيبتي علي كف يدي ورسمت ابتسامة رقيقة علي شفتيها وقالت: إن والدها في انتظاري في السابعة مساء الخميس. ثمة توتر باد علي وجهي قد يحدث تصدعا في الجمجمة, فأبوها رئيس مخابرات أسبق, وكل من قابلتهم في حياتي ذوو أهمية أو منصب, رئيس نيابة طلبني للتحقيق في اختفاء زوجة. أشعلت سيجارة, وبدأت ترتيب أفكاري في الجهة الشرقية من العقل, وتركت الجهة الغربية لمفاجآت الهجوم من رئيس المخابرات الأسبق. في الشارع, حاولت تلافي الأتربة وعوادم السيارات, أنا( م الفلاني), دكتور امتياز حديث التخرج, المستقبل المشرق أمامي, لا داعي للمشرق, الباهر أدق, لها دلالة علمية ومعنوية ومادية, أكتب القصة أحيانا, وأحيانا أكتب آلامي للمرضي, علمنا أن الزوجة المختفية هربت مع عشيقها جامع القمامة. أنا- م الفلاني, أبي كان موظفا في وزارة الأوقاف, وهو الآن علي المعاش. - لماذا لم يأت معك..؟ إنه يعيش علي مقعد متحرك يا سيدي. يجب أن أكون متوازنا في حديثي مع هذا الرجل الداهية, ثمة مناورة يجب أن أخرج منها فائزا كي أحظي بابنته. {{{ قالت جدتي: إن النجوم تقوم بمراقبة الطريق للقمر الخائف خلف الجبال. أشرت إلي تاكسي, نظر السائق في المرآة, فبادلته الكراهية وبادلني الابتزاز, أشعلت سيجارة, هل يجب أن أدخن في حضرة رئيس المخابرات الأسبق؟, ألقيت السيجارة, أحاول ترميم تصدعات الجمجمة, أنا- م الفلاني, لدي شقة صغيرة تطل علي الأهرامات. آه يا سيدي- الهرم الأكبر في الليل يقف حارسا أمام التاريخ والجغرافيا, فينزاح الهرمان الآخران من جبروته, ولم يجدا غير حراسة الأدب والفلسفة وعلوم إنسانية أخري. بعد فترة ظهرت الزوجة المختفية وعادت لزوجها, لم تعد تحتمل العيش مع جامع القمامة في منطقة جمع القمامة, فهربت عائدة إلي زوجها. في آخر الليل دعت لي جدتي أن أرزق ببنت الحلال, وها أنا سوف أقف بعد لحظات أمام رئيس المخابرات السابق والد بنت الحلال. شعرت بها تحوطني وتطمئنني, أشعلت سيجارة, وأعطيت السائق أخري, فأخذها بيد مدربه متجاوزا السيارة التي أمامه بحركة باهرة, دخان السيجارة لم يلطف كراهيتي وابتزازه. لن أدفع مهرا يا سيدي, سوف أؤثث الشقة, وأتقدم بشبكة بعشرة آلاف جنيه, وخلال عامين سننتقل إلي شقة جديدة في مدينة جديدة. {{{ نزلت أمام الفيلا, وانطلق السائق مخلفا الغبار والابتزاز, الأسوار مرتفعة, تقف خلفها الأشجار شامخة, فارتدت الفيلا إلي الخلف وأصبحت قلعة, هندمت ملابسي وتحسست( الكرافت) التي اشتريتها حديثا كي تزركش صدري, امتدت يدي لضرب الجرس, ارتبكت رأسي من الجهة الشرقية وخرج مارد, أحسست بضالتي وأنني كوب مياه فارغ, لم أتبين ملامح وجهه, وبجواره أطل كلب حراسة ضخم, كدت أتراجع, تماسكت حين جاء إمداد لعقلي من الجهة الشمالية, ودفع القلب بعض الثوار للمنطقة الجنوبية للمعاونة في موقعة أخري. ابتسمت- لم أتبين إن كان المارد ابتسم, أو نظر لي, أو تفحصني والكلب يتشمم ملابسي وحذائي, أنا- م الفلاني.... علمنا بعد فترة, أن جامع القمامة لم يعد يأخذ القمامة, فضاق الزوج من الزوجة والرائحة النتنة وهرب. {{{ جدتي قالت: إنه تم القبض علي القمر, وعندما لم يجد الأعداء منه نفعا, ألقوه في الآفاق, فتحطم لهلالات. أشار المارد بيده بما يعني الدخول, سرت خلفه مثلما سار الكلب خلفي, أحسست أنني خسرت المناورة, ولن أحظي بحبيبتي, أخرجت المنديل الأبيض لتجفيف جبهتي, وربما للاستسلام, زام الكلب في الخلف, فأمدتني جدتي بدعاء التوفيق والفلاح مرة أخري. دخلنا القلعة, وأشار المارد إلي غرفة الاستقبال الفاخرة, كنت أسير كقلم رصاص مقصوف السن علي ورقة بيضاء, اختفي المارد مثلما اختفي الكلب, علي أقرب مقعد جلست, من المؤكد أن القلعة مليئة بأجهزة المراقبة والتنصت, يجب أن أكون أكثر هدوءا وتماسكا. قالت جدتي ذات مرة: لا تخف فكلنا أولاد تسعة.. وضعت يدي في جيبي لأخرج سيجارة, أخفيها بسرعة, نظراتي يجب أن تبدو ثابتة. ذهبت الزوجة المختفية إلي وكيل النيابة لكي يبحث لها عن زوجها, ولم تجد منه تعاونا. دخل خادم أسمر نحيل يحمل كوب عصير واختفي في قلب القلعة, ثم انسابت نغمات موسيقية خافتة لأغنية شهيرة لأم كلثوم. أنا- م الفلاني, من أشد المعجبين بسيدة الغناء العربي, وأن لقاءها بالموسيقار عبد الوهاب كان يجب أن يحدث منذ أكثر من عشرين عاما, ستكون ابنتك في قلبي, وعقلي, قد أفكر في بعض المشروعات التجارية مستقبلا, سوف أخذ ابنتك في رحلة إلي أسوان لمشاهدة معبد الكرنك العظيم, وأبي سمبل, و..., لا... سوف آخذها في رحلة إلي الفاتيكان وجزر هاواي والكاريبي. ذهبت الزوجة لجامع القمامة كي يأخذ القمامة, فوجدته هرب مع امرأة أخري. جاء الرجل, تبادلنا النظرات والتحيات, ثم جلس يقرأ الجريدة, نبهته بوجودي, أطل من أسفل النظارة, القي الجريدة جانبا, وقال: من أنت.. ؟؟ وماذا تريد؟؟ ابتسمت, وتشجعت, وتحسست الكرافت, وأخبرته بطلبي يد كريمته, لم يظهر علي وجهه أي تعبيرات, غير ابتسامة هادئة وقال منبها: - لقد تزوجت أمس.!! أخذتني جدتي في حضنها وانهمرت دموعها علي وجهي وقالت: -( كله مقدر ومكتوب) والشمس مازالت مصلوبة في منتصف السماء والقمر يجاهد كي يكتمل.