ثمة أمر مريب ومزعج فى بر المحروسة هذه الأيام، ومبعث القلق والانزعاج الشديد أن بضاعة الفتنة الطائفية رائجة فى أسواق بعض محافظاتنا بشكل لافت ومتعمد، فما أن يُرمى بعود كبريت صغير حتى تتأجج نيرانها، وتتطاير شظاياها الحارقة فى كل اتجاه، مخلفة وراءها آثارًا وندوبًا تزيد من أزماتنا المتكاثرة، وكعهدنا فى مثل هذه المواقف العصيبة الحرجة نؤخذ على حين غرة، ونهرول نتخبط ساعين لإطفائها بوسائل تقليدية تخمدها مؤقتا مع الإبقاء على جذوتها مشتعلة منتظرة مَن يقترب منها لتتجدد نارها فى ثانية. ما حدث فى المنيا التى شهدت 4 محاولات للفتنة الطائفية خلال شهرين، ومن بعدها بنى سويف يؤكد ما سبق، ويبرهن ربما للمرة المليون أن المجتمع ومؤسساته الرسمية والأهلية لا تزال تفضل تعاطى المسكنات على تجرع الدواء المر الكفيل بكتابة روشتة علاج ناجع لداء عضال يفت فى عضد وجسد الوطن، منذ عقود خلت، ويفتك بجهاز مناعته بما يجعله هشا امام أى فيروس ضعيف يهاجمه. إن أحداث المنيا تصلح كدراسة حالة لبيان ما ينقصنا لنقضى مرة واحدة على بواعث ومصادر الفتنة الطائفية سواء كانت من الداخل أو الخارج، إذ أن المتابع يلاحظ أن محفزات الاستثارة بهذه المحافظة على وجه الخصوص حاضرة دوما، مما يسهل الانزلاق نحو الفتن الطائفية لأوهن الأسباب والشائعات. غالبا تنتهى القصة نهاية سعيدة بجلسة صلح عرفي، وزيارات خاطفة مكثفة لمشايخ، وقساوسة، وشخصيات عامة للقرية محل الوقيعة، ثم يدلون بتصريحات منمقة ملخصها أن ما جرى مجرد حوادث فردية، وأن تماسك النسيج الوطنى لا ريب فيه، وأن العلاقة بين جناحى الأمة متينة وثابتة. بالتالى يغلق الباب بدون سعى جدى لمعرفة العوامل الكامنة خلف هشاشة الأرضية التى يقف عليها الطرفان، مثلا لم نر جهدًا ولا اجتهادًا علميا يُعتد به، حول الخلل الموجود فى التركيبة والبنية الاجتماعية والثقافية للمنيا، وما تقلبت فيه من تحولات باعدت المسافات بين عنصرى وطننا، ومدى ارتباطها بالجوانب الاقتصادية، والبطالة، ونسبة الأمية، ومعدل الفقر، والتمييز فى الحصول على الخدمات العامة المفترض أن جميع مواطنينا ينالونها دون اعتبار لدياناتهم ومعتقداتهم، تأسيسا على مبدأ أن الدولة المصرية تسع الجميع وتظلهم برعايتها وحمايتها. وهل اكترث أحد بمتابعة ما يتم تلقينه للأولاد والبنات فى المدارس والمراكز التعليمية التابعة للمساجد والكنائس بالمنيا من أفكار وتصورات لا ترسخ المواطنة، وأن الجميع شركاء فى الوطن؟ رجائى عند النظر فى هذا الجزء ألا نستسهل بترديد أن المنيا كانت مهدا للجماعة الإسلامية، وأنها زرعت بذور التطرف والعنف فى مدنها، وقراها، ونجوعها، وأنها لا تزال متأثرة بنهجهم الرامى لإقامة فواصل وحواجز بين المصريين، فنحن بذلك لا نعبأ بما شهدته من متغيرات بدلت كثيرًا من الثوابت المستقرة فيها، ومن بينها المقولة السالفة، هم عامل من حقبة ماضية، فماذا عن مستجدات وعناصر الحاضر؟ يرتبط بهذا التعرف على ما اتخذه المسئولون بالمحافظة من قرارات فورية شجاعة تعالج الأزمة من جذورها وليس من قشورها مثلما اعتدنا، ففى معظم الأحيان يكون التركيز منصبًا على التهوين من خطورة الواقعة، خشية تهديدها لمناصبهم والشوشرة عليهم، ويسارعون إلى جمع طرفى الخلاف لتطييب الخواطر، وتهدئة ثورة الغاضبين. هنا بيت القصيد فما ينقصنا حقا هو تحلى مسئولينا بالشجاعة والجرأة الكافية لاتخاذ القرار فى التوقيت الملائم، وألا ينتظروا وقوع المصيبة للتحرك، فالأجدى أن يهبوا لوضع أيديهم على الأسباب المساعدة على اذكاء نار الفتنة ومعالجتها كل فى موقعه دون ترقب لما سيأتيهم من تعليمات وارشادات من الحكومة، فقط احسب معى عدد المرات التى تدخل فيها الرئيس عبد الفتاح السيسى لنزع فتيل الأزمات الطائفية وغيرها، وتأكيده المستمر على حتمية مساندة المصريين لدولة القانون والمساواة، واتساقا مع دعوة الرئيس فإن العقاب لابد أن يخضع له المواطن المخطئ أيا كان دينه. إن قيام المحافظين وبقية المسئولين التنفيذيين بواجباتهم سيفوت الفرصة على المتربصين ببلادنا وهم كثر الذين يستغلون شحنات الغضب والاحتقان لدى المصريين لاثارتهم بهدف إحداث فوضى عارمة تبدو مصر فيها وكأنها فاقدة للسيطرة والاتزان، وما يتمنونه ويخططون له هو ادخالنا فى دوامة الفتن الطائفية وشغلنا بتوابع حرائقها، فهذا فخهم المنصوب لنا بإحكام، فلا يجوز أن نوفر لهم التربة الخصبة، خاصة أن من بيننا من يساعدهم بخسة ونذالة بعدما فقدوا كلية وطنيتهم، وأصبحوا أسرى وعبيدا لمَن يحركهم من خارج الحدود، فهؤلاء لا يريحهم سوى رؤية مصرنا تتلوى من التعب من كثرة أزماتها. ينقصنا كذلك أن تتنبه وسائل إعلامنا لكونها من بين المحرضين على الفتنة لإغفالها بند المواطنة، لأنها فى تغطيتها حريصة للغاية على تقديم الدينى على الوطني، فهى لا تصف أطراف الحدث بأنهم مواطنون مصريون، لكنها تصف هذا بالمسيحى وذاك بالمسلم، فهل تلتزم بالقاعدة ذاتها عندما يكون طرفا النزاع من المسلمين أم تراها تورد فقط الأسماء دون تحديد لدينهم وملتهم؟ انتبهوا لفخ الماكرين، وتعاملوا مع الجذور وليس القشور. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي