رغم فشل محاولة الانقلاب ضد الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، فإن المحاولة وتداعياتها نجحت فى الإضرار بمشروعه على المستوى الخارجي، ولو مؤقتا، مما سينعكس فى الفترة المقبلة وبالضرورة على ملف الأزمة السورية، الأمر الذى قد يمثل مستقبلا ضربة قوية لحلم «السلطان» الأكبر فى إعادة إنتاج الإمبراطورية العثمانية. جاء توقيت الانقلاب سيئا جدا بالنسبة لأردوغان وحكومته الجديدة، التى سعى من خلالها إلى محاولة اللحاق بآخر الفرص المتاحة لتحقيق أهدافه فى سوريا عبر ما وصف ب»الانقلاب الناعم» فى السياسة الخارجية لتركيا، بدءا بإعلان تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ثم الاعتذار لروسيا عن حادثة إسقاط الطائرة»سوخوى 24» تمهيدا لعودة العلاقات لطبيعتها مجددا بين البلدين، بل الوصول إلى حد تصريح بن على يلدريم رئيس الوزراء التركى عن استعداد أنقرة لتحسين علاقاتها مع دمشق. إلا أن محاولة الانقلاب العسكرى هذه المرة، ربما قضت فعليا على تلك الفرصة، حيث من المتوقع انكفاء تركيا على نفسها المرحلة المقبلة من أجل محاولة إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، الأمر الذى ربما يمتد لسنوات. ويمكن رصد أهم تداعيات محاولة الانقلاب على المشهد السورى فى النقاط التالية : أولا : اللاجئون السوريون، حيث عملت تركيا ومنذ اندلاع الأزمة على استغلال ورقة اللاجئين - 2٫5مليون لاجيء - والمتاجرة بمعاناتهم لتحقيق مصالحها، حيث استخدمتها مرات لتعطيل عجلة المفاوضات، ثم جاء اقتراح إنشاء المنطقة العازلة على الحدود بحجة حمايتهم، بل ومؤخرا، طرح أردوغان منحهم الجنسية التركية، من أجل ضمان استمرار تأثير الدور حتى ما بعد انتهاء الأزمة، وتشجعيهم وقتها على المطالبة ب«حق العودة»، لكن عودتهم هذه المرة ستكون كمواطنين أتراك قبل أن يكونوا سوريين فى الأساس، مما يجعلهم بمثابة ورقة فى يده يمكن استغلالها وقتما شاء للضغط على النظام السورى الجديد أيا كانت هويته، بعد تنصيب نفسه كمحام دفاع عن حقوقهم. إلا أنه وبعد الانقلاب، سارعت تركيا بإغلاق حدودها مع سوريا، خاصة معبر باب الهوى الذى كان يستقبل يوميا مئات العائلات من الأراضى السورية إلى التركية، كما تراجعت بالطبع مسألة تجنيس اللاجئين من على قمة أولويات جدول أعمال حكومته، بل وربما باتت خارجه من الأساس، خاصة بعدما وجد الشك طريقه بالفعل إلى المجتمع التركي. ثانيا : المعارضة السورية، فقد ظلت تركيا بمثابة الداعم الأكبر لها بوجهيها السياسى والعسكري، إلى جانب بعض التنظيمات الإرهابية المحسوبة عليها أمثال جيش الإسلام وحركة أحرار الشام، من خلال توفير الملاذ الأمن لأعضائها على أراضيها، إلى جانب الدعم المالى لتحركاتهم، أيضا توفير شحنات الأسلحة اللازمة لاستمرار المعارك مع الجيش السورى، إلا أنه سرعان ما فقدت المعارضة رئتها الرئيسية التى تتنفس منها ما بعد الانقلاب، الأمر الذى ظهرت آثاره الميدانية مباشرة، حيث نجح الجيش السورى فى حصار حلب - أهم معاقل المعارضة - تمهيدا لفرض كامل السيطرة عليها والقضاء على حلم أردوغان تماما فى فرض منطقة عازلة شمال سوريا، وهو ما عبر عنه الرئيس السورى بشار الأسد فى كلمة أمام مجلس الشعب 7 يونيو الماضى من أن «حلب ستكون المقبرة التى تدفن فيها أحلام أردوغان». ثالثا : بقاء الأسد، فقد تبنت تركيا ومنذ البداية موقفا معاديا من الرئيس الأسد، ووقفت إلى جانب الدول الداعمة لإسقاطه كحل للأزمة، إلا أن خروج أردوغان وبعد فشل الانقلاب لتحية الشعب الذى وقف إلى جانب الديمقراطية التى جاءت به رئيسا عبر الصناديق لن يعطى أى مصداقية بالطبع لثبات موقف تركيا على حاله بعد الآن، حيث لم يعد من المنطقى استمرار المطالبة برحيل الأسد من منصبه، والذى جاء إليه هو الآخر عبر الانتخابات أيضا، مما عكس رغبة شعبية فى بقائه فى منصبه، حتى ولو خرج البعض عن هذه الرغبة، فهى ما يمكن التعبير عنها فى الانتخابات المقبلة، وليس عبر مواصلة السعى لإسقاطه عسكريا. رابعا : الخلاف الأمريكي، حيث ساهم فشل المحاولة الانقلابية فى اتساع هوة الخلافات مع الولاياتالمتحدة، والتى وضحت خلال الفترة الماضية مع اعتماد واشنطن على قوات»سوريا الديمقراطية» ذات الأغلبية الكردية فى حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي، فيما اعتبرته تركيا بمثابة تهديد صريح لأمنها القومي، وقد زاد من حدة الخلافات اتهام أنقرةلواشنطن بالمشاركة فى التخطيط لمحاولة الانقلاب، من خلال إيوائها ل»فتح الله جولن» الذى اعتبرته تركيا العقل المدبر الرئيسى للأحداث. خامسا : عملية «التطهير»، فقد شرعت الحكومة التركية وفور فشل محاولة الانقلاب فى إجراء عمليات اعتقالات وإقالات واسعة فى صفوف الجيش، وهو ما يعنى سعى أردوغان نحو إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية التركية، الأمر الذى سيضعف بدوره من تأثير الدور العسكرى التركى فى المشاركة ضمن التحالف الدولى لمحاربة داعش فى سوريا المرحلة المقبلة. إن مجمل هذه التداعيات لمحاولة الانقلاب الفاشلة على الأزمة السورية وغيرها مما قد تحمله الأيام المقبلة هو ما قد يؤشر على أن تركيا ربما فقدت مقعدها كإحدى الدول الإقليمية المؤثرة فى الأزمة، التى دخلت بالفعل أيامها الحاسمة، بحسب وصف ستافان دى ميستورا، أو ربما أصبحت منصاعة أكثر لما قد تفرضه القوى الأخرى من حلول لها، إلا أنها ورغم ذلك قد تفتح الباب أمام سيناريو آخر مغاير تماما لتوقعات الأحداث ربما تظهر ملامحه فى القريب، خاصة مع النظر إلى ردود أفعال «السلطان» الداخلية، والتى تؤشر على استمرار تمسكه بحلمه للنهاية.