إن لم تكُنْ بك للغريبِ هدايةٌ طال الطريقُ على الغريبِ النائي أنا قاصرٌ عن وصفِ ما أوليتني يا رب من نعمٍ ومن آلاء. «مناجاة.. الصاوي شعلان» يذكر أبو الحسن الندوي في كتابه (مذكرات سائح) أنه في أثناء زيارته لمصر عام 1951م، استعان بالشيخ الصاوي شعلان (1320 ه- 1403 ه/ 1902 - 1982م) ليترجم له شعر إقبال من الأوردية إلى العربية؛ ليستشهد به في محاضراته في المحافل التي كان يُدعى إليها. يقول الإمام الندوي: «الأستاذ صاوي شعلان له شغفٌ عظيم بالثقافة الإسلامية الهندية، يعرف الفارسية ويحفظ لإقبال شيئا كبيرًا في ترجمة رسالته إلى الأمم الإسلامية التي تعرف (بس جه بايد كرد) أي «أقوام شرق» ولا شك أن هذه المنظومة رسالة جامعة وفكرة مركزية لإقبال قد جاء فيها بكل ما يريد أن يقوله للأمم الإسلامية فوفق الله الأستاذ الصاوي لترجمتها وله قدرة على ترجمة الشعر مع أن ذلك من أصعب الأشياء ومثل الأستاذ الصاوي يستحق أن تستعين به الحكومة والمجامع العلمية على الأقل في نشر فكر إقبال في العالم العربي. .................................................................. بطاقة حياة وُلد الصاوي شعلان في ريف مصر، بقرية - سبك الأحد - مركز أشمون بمحافظة المنوفية، وفي صباه أصيب بحادث أفقده بصره، وأتمّ حفظ القرآن في العاشرة من عمره، والتحق بالأزهر الشريف، وفيه تخرّج، ثم التحق بمعهد اللغات الشرقية بالجامعة، وبعد حصوله على الدبلوم العالي عكف على تعلّم اللغات، وأتقن طريقة «برايل» للخط البارز، التي مكّنته من إتقان عدة لغات هي: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والتركية والفارسية، والأردية، وانكب على استيعاب ذخائر هذه الآداب؛ فترجم الكثير من قصائد شكسبير، وسعدي الشيرازي، وإقبال، وجلال الدين الرومي، والعطار، وطاغور. كتب الشيخ الصاوي شعلان عن شخصيات عدّة من شخصيات التصوف الفارسي، بعد أن خصص جزءًا من مقالاته للسيرة النبوية، التي شغلته وقتًا طويلاً فاستدعى من دروسها الكثير في مقالاته، ولم ينس انشغاله بالشخصية المحمدية وهو يترجم قطوفًا من حدائق التصوف، وسنذكر هنا عنوانات بعض مقالاته التي اهتم فيها بالتصوف وأعلامه من الشعراء حتى يعتني بها من لم يعرف عن هذه الشخصية سوى أن السيدة أم كلثوم أعجبت بترجمته لقصيدة - حديث الروح - لشاعر الشرق محمد إقبال فغنتها وظل اسمه مرتبطًا بهذه الشخصية فحسب. الصاوي شعلان ومحمد إقبال استفاد محمد إقبال كثيرًا في أشعاره وفلسفته ورؤيته للإسلام من دروس مولانا جلال الدين الرومي، والمطالع لأشعاره يرى أثر المثنوي واضحًا فيه، على سبيل المثال يذكر إقبال في مقدمة ديوانه أسرار خودى - أسرار الذات - أن جلال الدين الرومي هو الذي أيقظه ونبّهه ودعاه أن يسلك هذا السبيل، ويقصد هذا القصد ويشيع في الناس بيانه، ويبلغهم رسالته وهو يعترف لجلال الدين الرومي بالإمامة في كثير من أبيات الديوان. فالقطبَ الرومي هو المرشد وصاحب الضمير الصافي، هو أمير قافلة العشق السكران، علا مقامه القمر والشمس، يجعل من نهر المجرة حبلا لخيمته، لقد استقر نورُ القرآن في صميم صدره ، فغدا «جام جمشيد» خجلا أمام مرآته، أنّي لموجٍ يقيم منزله في لجة بحره، أنا ذاك الذي أوالي السكرة بعد السكرة من صهبائه. ويقول في نصٍّ آخر:(إن الذي أضرم بنار شعلته هشيم قلبي هو المرشد الرومي، القائل منزلنا كبرياؤنا). وحينما ينظم إقبال بعد فترة (جاويد نامه) رسالة الخلود ويقصّ فيها أحداث رحلته الرّوحية ومعراجه السماوي يجعل جلال الدين بمثابة جبريل له. الكتابةُ عن إقبال كتابة عن الرومي، وليس غريبًا أن يكون محمد إقبال بوابة الكثيرين للولوج إلى عوالم الرومي، فالذين كتبوا في الغرب أو الشرق عن إقبال كتبوا عن الرومي، ويمكن هنا أن نذكر نيكلسون وآربري وإيفا ميروفيتش وأنّا ماري شيمل وعبد الوهاب عزّام والصاوي شعلان وعيسى علي العاكوب. كتب الصاوي عن محمد إقبال عدة مقالات، نذكر منها: (فلسفة الحياة في نظر إقبال- في ذكرى إقبال – إقبال والأمة العربية – مراحل تربية الذات عند محمد إقبال- إقبال يشكو إلى رسول الله- مختارات من ديوان إقبال والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق- إقبال وأسرار الحياة- حزب الشيطان عند إقبال- إقبال والثورة الليبية) إضافة إلى ما كتبه بالاشتراك مع محمد حسن الأعظمي (الحياة والموت في فلسفة إقبال)، ونشره في حيدر آباد دكن 1945، وما ترجمه لإقبال من مثل: بس جه بايد كرد اى اقوام شرق، ومسافر(ماذا ينبغي أن نفعل يا أمم الشرق). الصاوي شعلان والتصوّف من بين أعمال الصاوي شعلان التي تستحق التحقيق والنشر جمعه لألف حديث من السنة وشرحه لها شرحًا بديعًا امتزج فيه التصوف بالأدب، ونذكر هنا نموذجًا حديثًا يُعبّر عن التصوف، فلطالما اهتم المتصوفة بشرح هذا الحديث والتعليق عليه، وجاء شرح الشيخ الصاوي له على النحو التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت». وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». إن مراقبة المؤمنين الأولين لربهم هي التي جعلتهم ينظرون في ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله من شيء ويتأملون في الكون كيف دبرها؟ وفي المقادير كيف قدرها؟ وفي المخلوقات كيف صوّرها؟ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فيتحلون من الإيمان بأنبل الصفات، ويقومون بجلائل الأعمال التي رفعت مكانتهم في الدنيا وبوأتهم منازل الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إن استدامة المراقبة لله هي الوازع الحي الذي يوجهك إلى الخير في النية والقول والعمل، ويضيء سراج عقلك عند ورود الشبهات ويوقظ ضميرك عند هجوم الرغبات. فلا تتكلم إلا حين ترى للكلام موضعًا من الحق ومدخلاً من الصواب ولا تختصم مع كريم فتفقد مودته ولا سفيه فتتعرض لأذاه. وتخلف أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يخلفك به إذا غبت عنه، وإذا قدرت لم تأخذ ما ليس لك، ولا يجرئك الرضا على الباطل. ولا يخرج بك الغضب عن الحق، ويكون شعارك الخشية من ربك في السر والعلانية، والإنصاف من نفسك للعدو والصديق، والقصد والاعتدال في الفقر والغنى وأنت مدرك أن الإيمان لا يكمل إلا حين يكون لباسه التقوى وزينته الحياء وجماله الحلم وثمرته العلم. ومتى أدرك الإنسان جلال المعاني السامية في قوله تعالى: «وهو معكم أينما كنتم» [سورة الحديد: من الآية 4]. أمكنه أن يقول في كل صباح ومساء وفي كل شدة ورخاء وفي كل برّ وبحر وفي كل أمن وخوف. «إن معي ربي سيهدين» [سورة الشعراء:62]. إن الناس يكافئون عن الكثير بالقليل ولكن الله يكافئ عن القليل بما فوق الكثير، والذي تنتظر منه الجزاء الأوفى قد رآك فاعمل لمرضاته وحده وابتغ الزلفى عنده. والجانب الأبرز بالنسبة لاهتمامنا بحضور الرومي في الثقافة العربية، هو ترجمات الصاوي شعلان لمختارات من مثنوي الرومي، لا يعرفها الكثيرون اليوم، وغير مشهور عن الصاوي أنه سجل أطروحته للدكتوراه بجامعة القاهرة، في الخمسينيات، بعنوان «نظم ألف بيت من مثنوي جلال الرومي، مع التحليل والدراسة»، وبعد أن أنجزها، واجتمعت اللجنة العلمية لمناقشتها، ترك الشيخ الصاوي شعلان القاعة، وآثر الانسحاب في هدوء بعد خلاف مع اللجنة المناقشة! ومن أسف أنني لم أتمكن من الحصول على نسخة من هذا العمل، ولا أظن أن كتابه مختارات من مثنوي جلال الدين الرومي قد طُبع في حياته! نذكر من مختارات ترجماته للمثنوي التي نُشرت في المجلات: 1 قطعة بعنوان: الغرام.. الهادئ.. العنيف قال لي المحبوب لمّا زرته.. من ببابي قلتُ بالباب أنا قال لي أنكرت توحيد الهوى.. عندما فرّقت فيه بيننا ومضى عامٌ فلمّا جئته.. أطرق الباب عليه موهنا قال لي من أنت قلتُ انظر فما .. ثم إلاّ أنت بالباب هنا قال لي أدركت توحيد الهوى.. وعرفت الحبّ فادخل يا أنا. 2 قطعة بعنوان قَصْرُ عمر، ومنها: عبرةٌ حارت لمعناها العقول.. عن رسول الرّوم في أرض الرسول جاء يطوي البيد سعيًا والحضر.. يسأل الأحياء عن قصر عمر أين قصر ضمّ خير المالكين.. والهدى والطُهر والنور المبين قصره لا شك مرفوع البناء .. أنصفوا لو شيدوه في السماء ومضى الرومي في شوق عظيم.. يسأل العابر عنه والمقيم فأهاج الشوق منه والهيام.. صوت أعرابية بين الخيام تحت ذاك النخل في حصن حصين.. حيّ فاروقًا أمير المؤمنين فتخلّ عن جواد ومتاع.. تنشد الكنز المرجي في البقاع قال يا سبحانه ربّ الوجود.. أين ذاك القصر وأين الجنود لم أكن من قبل أخشى قيصرا.. لا ولا سطوة آساد الشرى فلماذا أوهن الخوف جناحي.. من أمير نام من غير سلاح قال بعضُ الناس يا ضيف العرب.. قصره فوق الدراري والذهب منزلُ الأرواحِ صدقٌ ووفاء.. منزلُ الأجسام لونٌ وطلاء في سماء المجد مرفوع المنار.. ركنه زهدٌ وذلٌّ وانكسار لا تراه في الملا عين البصر.. بل تراه في العُلا عين الفِكر التآخي فيه والعدل بناء.. ومباني الناس غشٌّ ورياء كل من أغلق عينيه هواه .. فهو في الظّلمة حاشا أن يراه من يخف سلطان ذي العرش المجيد.. خافه كل قريب وبعيد وبخوف الله فاز الآمنون.. حيث لا خوف ولا هم يحزنون ملك العرب جميعًا والعجم.. نائمٌ في غير جُند أو حشم عبرة تُروى لجيل بعد جيل.. نام ظلُّ الله في ظلّ النخيل كان الشيخ الصاوي يعرف أن بعض نصوص المثنوي تُنتخب وتُترجم وتقدّم للقارئ العربي، وقد سعد بذلك ورأى أن المثنوي يستحق هذا الاهتمام العربي به، وليس هناك مانع يمنع من تعدد المترجم لنص واحد، فلكل مترجم وناقل محاولة في تقصّي المعاني، ومذهبٌ في التصوير لأخيلة كاتب المثنوي باعتباره شعرًا، وإن التقى الصاوي مع بعض المترجمين في وقته، كعبد الوهاب عزام وكفافي، إلا أنه لم يكن كغيره ملتزمًا بحرفية النصّ أو شكله في الترقيم والعدّ، ولم ينشغل كثيرا ببعض المصطلحات التي لا تلتقي مع الأسلوب العربي! ولعل هذا يجعلنا أمام نصٍّ إبداعي جديد له صلة قرابة بنصّ الرّومي، ولا يمكن أن نعتبره هو هو! 3 من قطعة بعنوان قصة الأسد والأرنب: أيّها السالك لا تكن عابدًا للصورة، فإن الإنسان وهو كريم على ربّه لا يمكن أن يقوم بصورته الآدمية وحدها، وإلاّ لاشتبه الناسُ بعضُهم ببعضٍ، ولتساوى الصالح والطالح، والبرّ والفاجر، وإذا شاهدت صورة منقوشة على الجدران فلا تبهرك براعة الفنان، وتأمل كم ينقص تلك الصورة من الصفات.. لقد أمعن المصوّر في رسمها وأحكامها وإبداع ملامحها، ومع ذلك فستبقى كما هي صورة لا غير، بلا روحٍ وبلا حياة! الصاوي شعلان وسعدي الشيرازي اهتم الشيخ الصاوي بنصوص سعدي الشيرازي كما اهتم بالرومي وإقبال، وقد نشر مختارات من أشعاره في الكتاب الذي ألفه بالاشتراك مع محمد حسن الأعظمي عن الأعلام الخمسة للشعر الإسلامي: (رومي وإقبال والعطار وسعدي وحالي)، كما نشر من قبل في عدة مقالات بعض ترجمات له، من مثل: •خواطر منثورة منظومة من بستان سعدي، ومن نصوصها: إن الذي يحصي عيوب الآخرين أمامك، تيقّن أنه سيعلنُ عيوبك أمام الآخرين... النصيحةُ لا تُجدي مع الجلمود كالمسمار لا ينفذ في الجلمود... لو بُعث الميتُ من قبره ما ردّ عليه الوارثون تركته، ولأصبحت حياته أشد محنة من موته... لو اغترب العالِم عن موطنه لوجد في كل مكان وطنًا، ولو اغترب الأمير عن قصره لأعوزه القوت. •صور رمزية لسعدي الشيرازي شاعر التصوف والحكمة، ومنها: يا بحرُ إني قد أتيتك راجيًا.. فاقبل فديتُك يا كريم رجائي.. أفني وجودي في وجودك راضيًا.. وأرى فنائي فيك عين بقائي. •من بستان سعدي...لسعدي كلماتٌ خالدة في باب الإحسان، تناول فيها البخلاء، وكشف الغطاء عن قلوبهم الجليدية وأيديهم الحديدية.. قال مرّة يصف أحدهم: ولو كان قرص الشمس فوق خوانه .. رغيفًا لما لاح النهار إلى الأبد.