الانطباعات الأولية السائدة فى الأوساط الاقليمية والدولية تكاد تُجزم وتقطع بأن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، خرج مُظفرًا غانمًا، وأكثر صلابة وقوة عن ذى قبل، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة مساء الجمعة الماضية، وأنه أصبح قابضًا على زمام السلطة باحكام بلا منازع وبسبيله للاستحواذ على صلاحيات أكثر ستحول تلقائيا النظام السياسى فى تركيا إلى نظام رئاسى محض سيدشن واقعيا «دولة أردوغان» التى ستقضى على البقية المتبقية من «دولة أتاتورك» العميقة. الاندفاع خلف هذه الانطباعات وما على شاكلتها لن يكون صائبا، لأن القراءة الفاحصة لأبعاد وزوايا التطورات الدرامية المتلاحقة فى تركيا وخارجها تشير الى صورة مختلفة، وأن أردوغان لن يسعد طويلا بانتصاره السريع المباغت على الانقلاب الذى لا يزال يلفه الغموض، مما جعل بعض المعلقين والاعلاميين يشك فى أنه تمثيلية ألفها وأخرجها الرئيس التركي، وهو اعتقاد يثير السخرية ولا يستحق دحضه وتفنيده. وما أن يزول طعم نشوة النصر من فم أردوغان سيجد نفسه وجها لوجه مع حقيقة مرة، وهى أن الانقلاب رغم فشله سيكون حدا فاصلا بين تركيا ما قبل الرابع عشر من يوليو وما بعدها، فالمجتمع دب فيه الانقسام والشقاق حتى مع ظهور أردوغان متلحفا بغطاء شعبى جارف كان له الفضل والاسهام الأكبر فى سحق الانقلابيين، إن الجماهير التى لبت سريعا نداء الرئيس التركى بالانتشار فى الشوارع للتنديد بالانقلاب كانوا بين خيارين صعبين، اما أن يسمحوا بعودة عجلة الزمن للوراء بتولى المؤسسة العسكرية السلطة مجددا، أو بقاء أردوغان المسيطرة عليه حتى النخاع النزعة التسلطية والاستعلائية، فاختاروا أخف الضررين باستمرار قيادة سلطان الأناضول الجديد للبلاد، واضعين فى حسبانهم ما أنجزه الرجل من طفرة اقتصادية مشهودة كانت دافعا لتحسين مستوى حياتهم وزيادة دخولهم، حيث ان الطفرة الاقتصادية فى عهد أردوغان ساعدت كثيرًا حزب العدالة والتنمية الذى يتزعمه فى اجتذاب وحشد الآلاف الذين باتوا يشكلون ميليشيات مدنية جاهزة ليست بالضرورة مسلحة للنزول للشوارع فور تلقيها الاشارة ليبدو المشهد فى أنظار العالم أن الشعب قال كلمته ولا راد لها، فمَن يقف فى وجه عاصفة الارادة الشعبية؟. لا يغيب عنا أيضا أن عائلات المتمردين، والقضاة الذين عزلوا من مناصبهم، سيكونون فى عداء مكشوف وصريح مع أردوغان وأنصاره، وقد تنشب معارك بينهم وبين داعمى أردوغان مرشحة للاتساع، فالاستقرار سيكون عملة صعبة المنال سيبحث عنها أردوغان فى مقتبل الأيام فى السوق السوداء. نحن إزاء انقسام مزدوج، نظرًا لأن القوات المسلحة التركية بدورها منقسمة، ولا تحسبن أن القضاء على المئات الذين شاركوا فى المحاولة الانقلابية يعنى أنها على قلب رجل واحد، وأنها ورقة مضمونة فى جيب أردوغان الصغير، وأنه نجح فى كسر شوكتهم وقادر على ترويضهم، ولن تجرؤ على الانقلاب عليه، أو على غيره، فالأسد أضحى بلا اسنان ومستأنسا. ذاك تصور غير صحيح لماذا؟ لأن المؤسسة العسكرية التركية، أو لنقل قطاعات غير قليلة فيها تشعر بتعرضها لاهانة بالغة من خلال تعامل مؤيدى أردوغان الفظ مع الجنود والضباط المتمردين، وشاهدنا على شاشات الفضائيات مشاهد قاسية لركلهم، والقاء الحجارة عليهم، والتقطت صور لقتل جندى متمرد بطريقة وحشية، وفصل رأسه عن جسده، ناهيك عن الملاحقات المستمرة للعسكريين، فهؤلاء حتى ولو كانوا من الفئة المتمردة الضالة المحكوم عليهم مسبقا بالاعدام فهم يرتدون زيهم العسكرى نفسه ، كما أن بعض القيادات العسكرية غير مرتاحة لمحاولات أردوغان الدائمة سجن الجيش داخل ثكناته وعدم الاقتراب من إدارة البلاد، ويقلقهم التصفية المتواصلة لعشرات القيادات العسكرية الذين يمتلكون الخبرة والكفاءة لمجرد الاشتباه فى أنهم من المتحفظين على طرق تعاطيه مع الملفات الداخلية والخارجية، وإن نظرت لكفة الميزان لتحديد من الأقوي, الجيش أم أردوغان، فلن يشق عليك التيقن من أن حماة دولة أتاتورك القوات المسلحة هم أصحاب الكفة الراجحة. وعلى المستوى الاقليمى والدولى فإن أردوغان من طائفة الزعماء الذين يفوق عدد أعدائهم عدد أصدقائهم، فهو يحشر أنفه فيما لا يعنيه فى دول عدة بتدخلات فجة، ودخل فى مصادمات ومشاحنات مع القوى الكبرى التى تصفى نزاعاتها وخلافاتها على رقعة شطرنج الشرق الأوسط،وسيكون له جولة مع أمريكا. وبسبب أسلوبه التصادمى مع الكبار فى سوريا والعراق، وتعطيله رسم خريطة جديدة للمنطقة بموقفه من الأكراد، فإن الغرب يرى أن مصالحه فى إبعاد أردوغان عن طاولة الأحداث، وقد نكتشف لاحقا الدور الذى مارسته بعض الدوائر الغربية والأمريكية فى مؤازرة الانقلاب قبل أن تستجد معطيات دفعتها لتبديل موقفها فى اللحظات الأخيرة، ولعل هذه الدوائر تنبهت أن أوروبا لن تتحمل تبعات الفوضى التابعة لدخول تركيا فى نفقها. كلمة النهاية لم تكتب بعد، ودولة أردوغان ليست على مرمى حجر، وانتظروا مزيدًا من المفآجات. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي