عبد الله باذيب هو واحد من كبار رجالات الحركة الوطنية في الشطر الجنوبي من اليمن. رافق هذه الحركة منذ بداياتها في أول خمسينات القرن الماضي عندما بدأت تتبلور في صيغة نضال من أجل الاستقلال عن السيطرة البريطانية، وتوحيد السلطنات التي كانت بريطانيا قد أنشأتها بهدف تقسيم اليمن الجنوبي وتأكيد سيطرتها عليه. وكانت بذلك تواجه احتمال تطور الحركة الاستقلالية في الجنوب، واستكمال نضالها في اتجاه الوحدة اليمنية الكبري. كان عبد الله باذيب منذ شبابه الباكر، أي قبل أن يبلغ العشرين من عمره وقبل أن يكمل دراسته الثانوية، قد فتح عينيه علي حقائق أيقظت عنده كل مشاعره الوطنية، ومهّدت الطريق أمامه ليختار الأشكال والصيغ والوسائل التي يخوض بواسطتها نضاله من أجل تحرر بلده وتقدمه. وسرعان ما أصبح الشاب صاحب قلم، يبث أفكاره حيث كانت تتاح له الفرص، في صحيفة هنا، وصحيفة هناك، وفي أندية هنا وأندية هناك، ودائماً بأعلي الصوت، وبقدر عال من الوضوح الذي كان تتيحه له ثقافته. وانتهي به المطاف، مع مرور الزمن ومع كثرة القراءات، ومع المتابعة الجادة واليقظة لأحداث زمانه في محيطه الإقليمي وفي العالم، إلي أن يؤسس حزباً، ويختار له أيديولوجية هي الإشتراكية العلمية. وكان ذلك في ستينات القرن الماضي، أي في الفترة التي كانت كل الحركات الوطنية تتجه، كل منها علي طريقتها، نحو الاشتراكية. وأهّلته أفكاره ومواقفه، في غمرة الأحداث التي كان اليمن الجنوبي يشهده، لأن يكون واحداً من كبار رموز الحركة الوطنية في بلده، حليفاً وصديقاً لإخوانه في الجبهة القومية التي كانت التعبير اليمني عن حركة القوميين العرب في امتداداتها الجغرافية، بدءاً من لبنان وسوريا وفلسطين وصولاً إلي شبه الجزيرة العربية من أقصاها إلي أقصاها. ولد عبد الله باذيب في عام 1931 في "الشحر"، المحافظة الخامسة في اليمن الجنوبي. تلقّي تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدرسة "بازرعة" الإسلامية في مدينة عدن. وتلقي تعليمه الثانوي في مدرسة الحكومة الثانوية في مدينة "كريتر". إلا أن الظروف الصعبة لعائلته اضطرته إلي ترك المدرسة في السنة النهائية من تلك المرحلة. وكان ذلك في عام 1951. فاستعاض الشاب عن المدرسة بتثقيف بنفسه. وكان أساتذته يلاحظون شغفه بالقراءة وحب المعرفة. فكانوا يتوقعون له مستقبلاً باهراً. وكانت اهتماماته تشمل الأدب والتاريخ والفلسفة، بالإضافة إلي السياسة في الجانب الوطني منها الخاص باليمن. وبرزت اهتماماته تلك، وهو طالب في الثانوية، بإقدامه علي إصدار مجلة شهرية في عام 1949 تحمل اسم " المستقبل"، إشارة إلي تطلعه المبكر إلي مستقبل بلده. ولم يكن إصدار تلك المجلة تعبيراً عن نزوة شباب، أو تسريعاً منه لإبراز اسمه. بل هي كانت تعبيراً حقيقياً عن هموم وطنية مبكرة لديه. وعندما توقفت المجلة عن الصدور بسبب الصعوبات المادية، وكان قد ترك الدراسة للأسباب الآنف ذكرها، عمل محرراً في صحيفة "النهضة" الاسبوعية، ثم سكرتيراً لتحريرها فيما بعد حتي احتجابها عن الصدور في عام 1954. وتبلورت مواقفه وأفكاره، خلال تلك الفترة، بالقراءة ومتابعة الأحداث والجدل والنقاش. وقاده تطور فكره السياسي إلي اعتناق الإشتراكية. وكان في ذلك الخيار الفكري سبّاقاً. فقد كان الأول بين رفاق دربه في الحركة الوطنية الذي اختار الاشتراكية فكراً ونهجاً وأسلوب نضال لتحقيق الأهداف الوطنية التي كان جيل تلك الحقبة مهموماً بها، أعني تحرير اليمن الجنوبي من السيطرة البريطانية ومن التقسيمات التي أوجدها البريطانيون في سلطنات وسلاطين، لمنع وحدة هذا الشطر الجنوبي من اليمن في إطار دولة ديمقراطية مستقلة. وهي شروط كان تحقيقها سيؤدي، في وعي وطنيي اليمن الجنوبي ومنهم عبد الله باذيب، إلي تحقيق الوحدة بين شطري اليمن، الحلم التاريخي الذي كان هاجس جميع اليمنيين. وقد قادت مواقف عبد الله الجريئة ضد الاستعمار البريطاني إلي محاكمته واعتقاله أكثر من مرة، من دون أن يؤثر ذلك في مواقفه، أو يثنيه عن متابعة المعركة حتي نهاياتها السعيدة. وظل ينتقل من صحيفة إلي أخري لمتابعة نضاله الفكري والسياسي، إلي أن أحس بالخطر يداهمه من قبل السلطات الاستعمارية. وعندما شعر أن تلك السلطات قررت نفيه إلي "الشحر" مسقط رأسه، من أجل إبعاده عن مركز الحركة الوطنية في مدينة عدن، تسلل سراً إلي مدينة "تعز" في الشطر الشمالي من البلاد. في ذلك العام (1961) الذي عاد فيه باذيب إلي عدن بادر إلي تأسيس الحزب الذي كان يطمح لأن يجعله الأداة التي يتمكن بواسطتها من تأمين صلة حية بالجماهير، ومتابعة نضاله الوطني تحت الشعارات الوطنية والتقدمية التي كانت تتكون بالتدريج لدي مختلف القوي، وبالأخص لدي "الجبهة القومية"، الفرع اليمني لحركة القوميين العرب. كان هم باذيب الأساسي، بعد أن أسس حزبه الجديد، ينصب علي العمل من أجل تحقيق الجبهة الوطنية الديمقراطية الواسعة التي لا تستثني أي فصيل من الفصائل الوطنية المعادية للاستعمار. ولم يكتف بالعمل لتوسيع قاعدة حزبه الجديد، بل هو عمل مع رفيقه عبد الله السلفي إلي تشكيل تنظيم للشباب. وقد قام هذا التنظيم بعمل واسع متعدد الأشكال في وسط الشباب. وكان متميزاً. وعندما قامت الثورة في عام 1962 في الشطر الشمالي من البلاد، بقيادة الجنرال عبدالله السلال وبدعم من الجمهورية العربية المتحدة التي أطاحت نظام الإمامة، سارع حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي إلي إعلان تأييده للثورة. وسرعان ما تركت الثورة أصداءها في الشطر الجنوبي. فقامت ثورة الرابع عشر من أوكتوبر بقيادة "الجبهة القومية" في عام 1968. وهي كانت ثورة مسلحة. فأعلن عبد الله باذيب باسم حزبه تأييده للثورة وانضمامه إلي صفوفها. ونظراً للظروف الداخلية والعربية التي حالت دون قيام العلاقات المباشرة بين حزب الجبهة الذي قاد الثورة وبين الاتحاد الشعبي الديمقراطي فور انطلاق الثورة، فقد قرر عبد الله باذيب ورفاقه تجميد العمل باسم تنظيمهم سعياً منهم إلي التغلب علي تلك الظروف، وإزالة موانع الالتقاء، وتسهيل إمكانية التلاحم مع التنظيم القائد للثورة. وكان ذلك الموقف منسجماً تماماً مع المواقف المبدئية والعملية التي اتسمت بها قيادة عبد الله باذيب للاتحاد الشعبي الديمقراطي، والتي لم تكن تعرف التعصب الحزبي الضيق. وقد كان هذا الموقف استشرافاً عميقاً وبعيد المدي لآفاق المستقبل. وفي الوقت الذي كان قد بدأ فيه الكفاح المسلح، بمبادرة وقيادة "الجبهة القومية"، نشأت حركة سياسية باسم " الجبهة الوطنية"، جعلت مهمتها الأساسية منافسة "الجبهة القومية" والاحتماء بمصر الناصرية. وحصل إرباك في صفوف الحركة الوطنية وفي وسط الجماهير. وتدخلت القيادة المصرية في الأمر. واستدعت عدداً من القيادات في الجنوب، وكان من بينها عبد الله باذيب الذي استقبله الرئيس عبد الناصر وسأله عن رأيه في مدي قدرة تلك الحركة المسلحة علي الاستمرار، ومدي دعم الشعب لها. فكان جواب عبد الله قاطعاً في إيجابيته. ولم تمض سنوات خمس علي تلك الحركة حتي تحقق الانتصار، وأصبح اليمن الجنوبي دولة مستقلة. وكان عبد الله باذيب أحد أبطال ذلك الانتصار. وفي ذلك العام بالذات، عام انتصار الثورة (1968)، أصدر عبد الله باذيب ورفاقه باسم "رفاق الشهيد السلفي" وثيقة ذات طابع برنامجي بعنوان : "وجهة نظر حول المرحلة الراهنة – ثورة أكتوبر-، طبيعتها ومهامها وآفاق المستقبل." وداخل الجبهة القومية قد تفجر بقوة بعد انتصار الثورة بين الجناح اليساري الذي كان من أبرز ممثليه عبد الفتاح اسماعيل الذي نفي إلي القاهرة بسبب أفكاره ومواقفه، والجناح الذي صنف يمينياً وكان من أبرز أركانه قحطان الشبلي الذي تسلم رئاسة البلاد عقب انتصار الثورة. وانتهي الصراع بانتصار الجناح اليساري فيما سمي بالحركة التصحيحية، في عام 1969. وتسلم رئاسة البلاد باسم تلك الحركة سالم ربيع علي (سالمين). وعاد عبد الفتاح اسماعيل ليتسلم موقعه في قيادة حزب "الجبهة القومية". وأدي هذا التحول إلي نضوج الشروط الموضوعية لتحقيق وحدة الفصائل الثورية، وفق ما دعا وعمل من أجله عبد الله باذيب علي امتداد حياته. وفي عام 1969 أسندت وزارة التربية إلي عبد الله باذيب. ثم أسندت له في عام 1972 وزارة الثقافة. وقام بعمل بالغ الأهمية في الوزارتين، أقر الجميع به وبنتائجه. وكان من إنجازاته في وزارة الثقافة تأسيس مسرح وطني ومؤسسة للسينما. كما أنشأ معارض للفنون التشكيلية، وفرقة للرقص الفولكلوري. واهتم بالآثار لجلب السياح إلي البلاد. وأصدر مجلة "الثقافة الجديدة" باسم الوزارة وجعلها منبراً للمثقفين في ميادين إبداعهم وبتياراتهم المختلفة. وبدأت تصدر الكتب بغزارة في شتي مجالات الإبداع والمعرفة بتشجيع من الوزارة. بعد قيام التنظيم السياسي الموحد "الجبهة القومية" اختير عبد الله باذيب عضواً في لجنته المركزية وفي المكتب السياسي وسكرتيراً لدائرة الثقافة والإعلام. مرّت عشر سنوات من عمر الجمهورية الديمقراطية اليمنية في ظل حكم الحزب الاشتراكي. ثم بدأ الانهيار بالتدريج. والآن أين هي اليمن جنوباً وشمالاً بعد كل تلك النضالات تحت راية الحرية والتقدم والاشتراكية؟! لمزيد من مقالات كريم مروَّة