لدينا شواهد متزايدة على شعور الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعدم الرضا من قدر ومستوى الاستجابة لدعواته المتكررة والملحة فى المناسبات العامة لتصويب الخطاب الدعوي، وجعله عصريا ومتوافقا مع إحداثيات وبوصلة الألفية الثالثة. الشواهد تجدها ماثلة أمام ناظريك فى توجيه الرئيس رسائل بالغة التهذيب والرقة للمعنيين بقيادة قافلة التحديث، وفى مقدمتهم الأزهر الشريف، تحثهم وتدفعهم دفعا لاسراع الخطى نحو اتخاذ اجراءات عملية ملموسة، وتنبههم بلطف إلى أن حركتهم تتسم بالبطء الشديد الذى لا يتناسب كلية مع خطورة وإلحاح قضية التجديد التى ستحسم فعليا المصير الذى ستتجه إليه الأمتان المصرية والإسلامية، فى وقت تترك فيه الساحة شاغرة لأشباه الدعاة، والمتطرفين، والإرهابيين الذين يروجون لخطاب دينى يتعارض فى تفاصيله ومساراته مع ثوابت واصول ديننا الحنيف بلى عنق الحقيقة، ويرتكن إلى تفسيرات تبرر وتقوى اتجاهاتهم المتشددة المحبذة للعنف، والتدمير، واستباحة دماء المسلمين دون غيرهم. آخر رسائل السيسى كانت بعلم الوصول، خلال احتفال وزارة الأوقاف الأربعاء المنصرم بليلة القدر، واشتملت على عتاب مبطن رقيق لأزهرنا الشريف على تأخره فى الانتهاء من بلورة خطته المرتقبة لتسريع وتيرة تصويب الخطاب الديني، والبدء فى تنفيذها. نمسك بطرف خيط العتاب الرئاسى الرقيق للتساؤل عن أسباب ومعوقات عدم صدور وثيقة تجديد الخطاب الدينى التى صاغها الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل، بعد عام كامل من المناقشات والمداولات بين اطياف شتى من المثقفين، والمفكرين، والشيوخ، والشخصيات العامة؟ وكم سيكون رائعا وعظيما أن يُطلع أزهرنا الرأى العام وبشفافية متناهية على ما أنجزه فى هذا الاطار، وألا يترك فرصة لتعميق الشكوك حول نواياه وجديته «لعصرنة» خطابنا الديني، عليه كذلك مواجهتنا وبوضوح بمساعيه لحل إشكاليتين كبيرتين، أولاهما حجم وقوة الجبهة المناوئة لفكر التجديد داخل الأزهر، ومدى ما يبذلونه من جهد وحشد لاعاقة مسيرة الاستنارة، ومدى تأثيرهم على الدوائر المخولة بصنع القرار فى أزهرنا. فعندما أنظر فى بيان أخير عن الأزهر بشأن عدم صدور وثيقة صلاح فضل يتضح أنها على غير هوى التيار المحافظ بالمشيخة، وأنها ستخضع فيما يبدو لتعديلات بحيث تكون مقبولة من جهته. ثانيتهما: ما هى خطة الأزهر لاعداد جيل جديد مستنير من الدعاة المستقلين البعيدين عن الارتباط التنظيمى بجماعات وفصائل تقف بالمرصاد لأى مساس بالخطاب الدينى السائد، والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، ادرى الناس بالويلات التى عاناها الأزهر، بسبب توغل وانتشار الإخوان فى جنبات وأروقة جامعة الأزهر لعقود. يتصل بالعنصرين السابقين نقطة جوهرية فاصلة، هى أن تصويب الخطاب الدينى لا يستهدف طمس ثوابت واصول الدين، وأن فقه الأولين له وضعه واحترامه فى النفوس والعقول، والاسترشاد به لاستنباط بعض الاحكام الشرعية مع مراعاة فارق التوقيت، فعصرنا الراهن يلزمه فقه متطور يُراعى المستجدات والتحولات الجارية، ولا يجوز لاحد وضع خطوط حمراء على الاقتراب من الفقه الذى يُشكل فى مجمله اجتهادات بشرية قابلة للصواب والخطأ، وأن باب الاجتهاد مفتوح إلى أن تقوم الساعة، وأن مَن يتعرض له بالنقد وبيان مثالبه ليس مارقا وخارجا عن الملة، مادام أنه توخى الأدب والعقل عند انتقاده أمورا معينة فيه. ولعله من الأوفق تدعيما للفكرة اعلاه التذكير بتجربة الإمام الجليل الشافعي، الذى جدد مذهبه إبان السنوات التى أمضاها فى مصر، ابتداء من 199 هجرية عندما قدم من العراق وحتى وفاته فى 204 هجرية، وتجديده انصب على 22 مسألة فقهية أدخل عليها تغييرات لأنها لم تكن متوافقة مع عادات وحياة المصريين حينئذ، منها مثلا التعجيل بصلاة العشاء، إذ ان أكثرية المصريين كانوا يعملون بالزراعة ويأوون إلى فراشهم مبكرا للاستيقاظ مع أول ضوء للصباح، رغم أنه فى العراق كان مؤيدا لتأخيرها، فطبائع وظروف العراقيين تختلف عن طبائع سكان المحروسة. تجديد الشافعى شمل كذلك عدم انتقاض الوضوء عند ملامسة المحارم، وكراهية تقليم أظافر الميت، وعدم اشتراط النصاب فى الركاز، الشاهد هنا أن صاحب المذهب الشافعى كان مرنا طيعا، واستن سنة حسنة لم يعمل بها بعده سوى أشخاص يُعدون على أصابع اليد الواحدة، فى مقابل جيوش من المشايخ والمحسوبين على الدعوة يُكرسون ما هو قائم دون أن يطوله تغيير يذكر، مع أن التجديد يمكن من يؤمنون به وبجدواه من إحياء نواحٍ مشرقة وسابقة للعصر فى السنة النبوية المطهرة، واشاعتها بين الناس للاستفادة منها أعظم الاستفادة. ولكى تكتمل الفائدة وتعم ونحقق المراد من تصويب الخطاب الدينى فلابد من تدبر مسألتين، الأولى أن التجديد قضية مجتمع بالأساس وليس فقط بعض مؤسساته، وأن الإصلاح يجب أن يكون شاملا، ألا يحتاج الخطاب السياسى لتصويب، ومعه الخطاب الإعلامي، والخطاب الحكومى .. الخ؟ والثانية أنه لضمان الحصول على المرجو من التصويب يتعين تحرير التعريفات، وإزالة الالتباسات المحيطة به، مثل أن يُحدد بشكل دقيق وواضح ما نبغيه من تجديد الخطاب الديني، والآليات المفترض اتباعها، والجهات المسئولة عن متابعته وغيرها من الأمور الحيوية، ودون ذلك سنظل ندور فى دائرة مفرغة دون عائد يرجى. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي