مدير تعليم دمياط يشهد ختام ورش عمل الأنشطة الطلابية    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    مدبولي يعلن عن مشروع استراتيجي مهم بالتعاون مع بيلاروسيا    رئيس وزراء بيلاروسيا: مصر شريك تاريخي وتلعب دورًا محوريًا في الشرق الأوسط    أمير الكويت يصل مطار القاهرة للقاء السيسي    هل يواصل ميتروفيتش تفوقه أمام اتحاد جدة بكلاسيكو كأس الملك السعودي؟    مباراة ريال مدريد ضد بايرن ميونخ في دوري أبطال أوروبا.. الموعد والقنوات الناقلة    إحالة 4 متهمين في حريق استوديو الأهرام للمحاكمة الجنائية    ريم بسيوني ومصطفى سعيد يتسلمان جائزة الشيخ زايد للكتاب    قبل عرضه .. تعرف على قصة مسلسل «انترفيو» ل رنا رئيس    وزير الصحة يبحث مع وزيرة التعاون القطرية الاستثمار في المجال الصحي والسياحة العلاجية    غدًا.. «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف الإعانة الشهرية لشهر مايو    رئيس وزراء بيلاروسيا: مستعدون لتعزيز التعاون الصناعي مع مصر    الاتحاد الأوروبي يخصص 15 مليون يورو لرعاية اللاجئين السوريين بالأردن    رئيس الوزراء الفلسطيني: لا دولة بدون قطاع غزة    رئيس جامعة المنيا يفتتح فعاليات المنتدى الأول لتكنولوجيا السياحة والضيافة    كيف تجني أرباحًا من البيع على المكشوف في البورصة؟    دوري أبطال أوروبا، إنريكي يعلن قائمة باريس سان جيرمان لمباراة دورتموند    "دمرها ومش عاجبه".. حسين لبيب يوجه رسالة نارية لمجلس مرتضى منصور    المقاولون: حال الكرة المصرية يزداد سوءا.. وسنتعرض للظلم أكثر في الدوري    لبيب: نحاول إصلاح ما أفسده الزمن في الزمالك.. وجوميز أعاد مدرسة الفن والهندسة    جهاز مشروعات التنمية الشاملة ينظم احتفالية لحصاد حقول القمح المنزرعة بالأساليب الحديثة    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    سرعة جنونية.. شاهد في قضية تسنيم بسطاوي يدين المتهم| تفاصيل    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    موعد غلق باب التقديم للالتحاق بالمدارس المصرية اليابانية في العام الجديد    رئيس "كوب 28" يدعو إلى تفعيل الصندوق العالمي المختص بالمناخ    محافظ بنى سويف: توطين الصناعة المحلية يقلل الفجوة الاستيرادية    الليلة.. حفل ختام الدورة العاشرة ل مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    مستشار زاهي حواس يكشف سبب عدم وجود أنبياء الله في الآثار المصرية حتى الآن (تفاصيل)    بالصور- هنا الزاهد وشقيقتها في حفل حنة لينا الطهطاوي    ساويرس يوجه رسالة مؤثرة ل أحمد السقا وكريم عبد العزيز عن الصديق الوفي    تجارة القناة تكرم الطلاب المتفوقين من ذوي الهمم (صور)    لحظة إشهار الناشط الأمريكي تايغ بيري إسلامه في مظاهرة لدعم غزة    وزير التنمية المحلية يُهنئ الرئيس السيسي بمناسبة الاحتفال بعيد العمال    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    كيف علقت "الصحة" على اعتراف "أسترازينيكا" بوجود أضرار مميتة للقاحها؟    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    عشان تعدي شم النسيم من غير تسمم.. كيف تفرق بين الأسماك الفاسدة والصالحة؟    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    ماس كهربائي.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة دون إصابات في فيصل    المهندسين تبحث في الإسكندرية عن توافق جماعي على لائحة جديدة لمزاولة المهنة    إصابة 4 أشخاص بعملية طعن في لندن    "عايز تتشهر ويجيبوا سيرتك؟".. متحدث الزمالك يدافع عن شيكابالا بهذه الطريقة    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    اليوم.. آخر موعد لتلقي طلبات الاشتراك في مشروع العلاج بنقابة المحامين    أقدس أيام السنة.. كيف تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بأسبوع آلام السيد المسيح؟    رئيس اقتصادية قناة السويس يناقش مع «اليونيدو» برنامج المناطق الصناعية الصديقة للبيئة    «التنمية المحلية»: بدء تحديد المخالفات القريبة من المدن لتطبيق قانون التصالح    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    كينيا تلغي عقد مشروع طريق سريع مدعوم من البنك الأفريقي للتنمية    واشنطن: وحدات عسكرية إسرائيلية انتهكت حقوق الإنسان قبل 7 أكتوبر    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    الإسماعيلي: نخشى من تعيين محمد عادل حكمًا لمباراة الأهلي    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا الشارع هو عشقى الأول.. والأخير!
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 07 - 2016

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام علي سيد الخلق أجمعين وآخر الأنبياء والمرسلين.. سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم.
فهذه رحلة تخطت المكان والزمان.. سوف نصحبكم فيها إلي القاهرة من يوم مولدها في شارع المعز لدين الله .. قبل ألف ونيف من السنين.. وحتي يومنا هذا.. نتفقد فيها أحوال الزمان والناس والحكام والرعية والقادة والندمان.. ونكشف فيها أسرار الخدور والقصور والتكايا والخانات وما جري خلف الجدران.. من أحداث وحكايات.. وما خفي من مكائد ومؤامرات تشيب لها الولدان..
وسوف يصحبنا فيها من سجلوا رواياتها وخباياها وأسرارها بأقلامهم في نفس زمانهم.. بوصفهم شهودا علي عصر من عصور ألف ليلة وليلة المصرية.. وبوصفهم من أعظم من أمسك بالقلم وسجل بالصدق كله حكاية القاهرة التي هي بالقطع حكاية مصر كلها عبر مشوار ألف عام ويزيد..
سافرنا إليهم في دورهم وعصرهم وأيامهم.. وصحبناهم في جولات وصولات وجلسات استماع حيث عاشوا وحيث أقاموا وحيث كتبوا كتبهم ومجلداتهم ومقاماتهم وأسفارهم ونبض أقلامهم..
ونزلوا إلينا من عليائهم إلي أيامنا التي نعيشها ليشاهدوا ويسمعوا ويتحسسوا ويتعايشوا ويتعجبوا ويدهشوا بأنفسهم وبعيونهم وبآذانهم ومداد أقلامهم ما نحن فيه من خير وشر.. فرح وترح.. حزن وغم.. رقص وطبل.. ودخلوا معنا سرادقات زمر ولغو ولغط ونفاق وسرادقات هم وحزن وشقاق... وقلنا لهم وقالوا لنا.. وسجلوا بنبض أقلامهم وبدع خلقهم وحر فكرهم.. ونقلوا إلينا صورة بلا رتوش بلا تزويق لما كنا ولما نحن فيه.. وما نحن سائرون إليه.. إن شرا نره وإن خيرا نره..
إنهم مجمع مؤرخي مصر العظام في عصور الزهو والفخار..
إنهم أغلي ما تملكه مصر من كنوز المؤرخين الكبار: مولانا المقريزي ومولانا الجبرتي ومولانا ابن إياس ومولانا إبن بطوطة ومولانا ابن تغري بردي..
قابلناهم في أيامهم.. أو جاءوا إلينا في أيامنا..
ماذا قلنا لهم؟
ماذا شاهدوا؟
وإلي أين ذهبوا؟
إنها رحلة في تاريخ بلد ساد الدنيا بحضارته وناسه وعلمه وأدبه وفنه ودينه وخلقه العظيم..
بلد كان أول من عرف الإله الواحد الأحد قبل بلاد الأرض جميعا..
بلد علم الدنيا ما لم تعلم.. وقال لها قبل الزمان بزمان.. استيقظي ياصبية فقد بدأ عصر التنوير..
ماذا كان حال الانسان المصري قبل مايزيد علي ألف عام؟
كيف كان يفكر؟
وماذا كان يأكل؟
وكيف كان يمضي يومه وغده؟
وفي أي مدرسة تعلم وتنور وتقدم؟
وكيف أصبح الآن.. وكيف سارت به الأيام؟
وكيف جارت عليه السنون؟
وماذا صنعت به المحن والخطوب؟
هل ركع مع الراكعين.. أم أنه كما عودنا دائما.. يغفو أحيانا.. ولكنه لاينام أبدا؟
................
................
إنها للحق والصدق ياسادة ياكرام.. رحلة مع سنين السحر والخيال وأسواق النخاسة والجواري والقيان.. تدمع عيوننا مرة لنهاية أعظم امرأة حكمت مصر في الإسلام اسمها شجرة الدر، ضربا بالقباقيب.. وتفرح ونقيم الزينات لنهاية جيوش الظلام التي تركب جياد المغول علي يد السلطان قطز والظاهر بيبرس.. ولكن الفرح كما تعودنا عمره قصير في حياتنا.. عندما تنتحب النساء وتلبس القاهرة السواد عندما علقوا رأس طومان باي علي باب زويلة.. آخر رمز للمقاومة المصرية أمام جحافل السلطان سليم الأول.. ومن يومها لم تفرح القاهرة!
إنها رحلة مع السحر والسحرة.. الخيال والحقيقة.. الحب والكراهية.. الخير والشر.. الحق والباطل.. الصعود والسقوط.. مشوار عمر طوله ألف سنة.. في قلب الشارع الذي شهد مولد القاهرة.. التي خلدها أديبنا الكبير نجيب محفوظ.. في رواياته..
تعالوا نعيش المكان والزمان والناس الذين يتحركون ويقولون في زقاق المدق وحارة برجوان حيث عاش المقريزي وابن خلدون.. وفي خان الخليلي الذي كان مقبرة للخلفاء التي تحولت إلي خان.. وفي بين القصرين وفصر الشوق وأولاد حارتنا.. لعلنا نقابل أبطالها وجها لوجه.. وإن كانوا مازالوا يعيشون بيننا كأن الزمان لم يزد عن الأمس إلا أصبعا!
.....................
.....................
لقد سألني خبيث من خبثاء كشف »المستور والمستخبي« والنبش في الأوراق الشخصية للناس شاءوا أم أبوا: ماهو سر اهتمامك الكبير بهذا الشارع الذي ولدت فيه القاهرة قبل نيف وألف عام.. حتي إنك كتبت عنه أكثر مما كتبت عن شوارع أخري ومدن أخري وناس آخرين طوال كتبت عنه أكثر مما كتبت عن شوارع أخري ومدن أخري وناس آخرين طوال كتاباتك الصحفية؟
هل عاش أجدادك يوما ما في هذا الشارع الذي شهد ميلاد القاهرة؟
ولماذا تصطحب دائما في كل جولاتك وصولاتك مؤرخينا العظام: المقريزي والجبرتي وابن إياس وابن تغري بردي وابن بطوطة وهذا المؤرخ المريخاوي الذي صنعته وأسميته ابن سفروتة.. حتي ارتبط اسمك بهم وارتبطوا هم بك فكرا وحوارا واتصالا..؟
وأعترف هنا والاعتراف يد الأدلة أنه يقينا قد عاش أحد أجدادي الأوائل عبر مشوار طوله ألف سنة.. هنا في هذا الشارع وأنجب أولادا وبنات وأحفادا يسدون عين الشمس..
فقد جاء جدي الأول الذي يحمل اسم »السعدني« مع قبيلته التي تحمل نفس الاسم من مدينة فاس بالمغرب كما قال لي أبي وفتح أمامي خريطة شجرة العائلة الكريمة أبا عن جد عن جد الجد.. وقال لي إن قبيلة »السعدني« قد جاءت مع الفاتح المعز لدين الله في أواخر القرن العاشر الميلادي.. واستقرت ببلدة صغيرة اسمها »فم البحر« التي أصبحت الآن تحمل اسم: القناطر الخيرية.. عند رأس مثلث الدلتا.. عندما يتفرع نهر النيل إلي فرعي دمياط ورشيد..
وقال لي: أنت عزت بن إبراهيم بن مصطفي بن سالم بن السعدني..
وللأسف فإن هذه الخريطة لشجرة العائلة الكريمة قد تاهت وضاعت بين »كراكيب« بيتنا الكبير في مدينة القناطر الخيرية فم البحر سابقا، بعد رحيل الأب الطيب والأم الحنون.
وهذه الرواية عن الأصول السعدنية القبلية التي كتبها عميد عائلة السعدني الصحفية والفنية كاتبنا الكبير محمود السعدني الذي قال إنه: العبد لله محمود بن عثمان بن محمد بن علي بن السعدني الذي ينحدر من أصول يمنية من قبيلة علي حدود صنعاء.
وأن جده الأول قد جاء إلي مصر مع الفتح الاسلامي.. ثم راقت له الحياة في بلاد النيل.. فأقام في الشرقية.. ثم خلال سنوات الجوع والقحط والاضطهاد هاجر »السعادنة« من الشرقية إلي كل مكان في مصر.. ولهذا تجد السعدني في المنوفية وفي الغربية وفي الاسكندرية في الجيزة.. وستجد قبيلة السعدني المصرية مذكورة في كتاب »وصف مصر« الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية منذ قرنين من الزمان.
وأنا شخصيا أميل أكثر لرواية عميد القبيلة السعدنية عمنا محمود السعدني.. لكثرة السعادنة في كل أنحاء مصر.. ومن هنا تزداد فرص القرابة وصلة الدم والرحم بيننا جميعا.
ولكن نبهني أكثر من مرة في حياته طبعا: أستاذنا ومعلمنا وكاتبنا الكبير أنيس منصور إلي أن كتاب وصف مصر قد تحدث عن عائلة السعدني وأن لهم 170 فارسا بخيولهم في صعيد مصر.. ويخشاهم جند الحملة الفرنسية!
ولعلي أحببت شارع المعز لدين الله الذي ولدت فيه القاهرة.. لأن أجدادي حسب رواية أبي لشجرة العائلة قد عاشوا فيه أو جاءوا إليه يوما..
ولكنني أعترف هنا أنني أحببت هذا الشارع.. بل وسكنت فيه يوما مع بداياتي الصحفية.. وعشت شهورا من أجمل شهور حياتي.. وكانت لي قصة حب مع ساكنة من سكان حارة برجوان التي عاش فيها مولانا المقريزي.. كادت تكلفني رأسي.. معلقا علي باب زويلة كما فعل السلطان سليم بزعيم المقاومة الشعبية طومان باي قبل نحو 500 سنة.. ولكن الله سلم.!
ولعل الذي أدخل هذا الشارع إلي قلبي إنسان بسيط ورائع اسمه «عم محمد مجاهد» وكان مسئولا لسنوات طويلة عن بيت السحيمي.. لكم أمضينا ليالي جميلة وسهرات حتي الصباح في هذا البيت المملوكي الجميل.. في ضيافة عم محمد.. وقد شاركني فيها مرات الأديب الكبير جمال الغيطاني.. وعمنا وشاعرنا صلاح جاهين ورفيق العمر عبدالوهاب مطاوع والشاعر الجميل فؤاد بدوي..
أما سر تعلقي بمؤرخينا العظام.. المقريزي والجبرتي وابن إياس وابن بطوطة وابن تغري بردي.. فلأنهم كانوا من سكان هذا الشارع يوما.. عاشوا فيه وكتبوا فيه مخطوطاتهم ومقاماتهم العظيمة.. وكان لهم الفضل الأول فيما أكتبه عنهم ومعهم وبهم..
ولقد زاد من عشقي لهذا الشارع وفاض.. أنه كان عشق أديبنا العظيم نجيب محفوظ.. كل ركن فيه وكل حارة وكل زقاق وكل شارع مازال حيا يرزق.. أبطال رواياته: »بين القصرين« و»قصر الشوق« و»السكرية« و»زقاق المدق« و»خان الخليلي« وأجلس علي قهوة فتوة العطوف والحرافيش.. وأصلي العصر في مقام الحسين والمغرب في الأزهر الشريف..
هل عرفتم الآن، لماذا أصبح هذا الشارع هو عشقي الأول.. وربما الأخير؟
...................
...................
بعد أن هبر الخلق ما لذ وطاب وسال له اللعاب في موائد الإفطار وملأوا بطونهم وكروشهم والذي منه.. والذي منه هنا يعود إلي حلو الخشاف ولطيف الكنافة وظريف القطايف.. ناسين أو متناسين البني آدمين الذين كان إفطارهم علي موائد الرحمن.. أو الذين كان خبزهم أغبر وغموسهم من الفول الذي يأبي أن يفارق مائدتهم بعد طول صحبة وعشرة سنين واعوام.. حتي إنه أصبح كأنه واحد من الأسرة يحمل بعضهم اسمه في بطاقته مثل «الواد قدرة» و «المعلم عبده الفولي» !
وبعد الهبر والذي منه والصلاة والقيام والتراويح والتسابيح.. خرج الخلق يروحون عن أنفسهم عناء صيام النهار وخلفة العيال وهم الستات وكثرة الطلبات بالسهر في ليالي رمضان التي تحولت القاهرة الساهرة العامرة.. إلي ليالي ألف ليلة المصرية.. وليس العباسية والرشيدية نسبة إلي العصر العباسي الذي ظهرت به، وهارون الرشيد أعظم خلفاء هذا العصر..
والبطل في ليالي ألف ليلة وليلة المصرية هو جهاز نجيب غريب مريب.. كأنه عفريت خارج من قمقم يقول لك : شبيك لبيك عبدك بين إيديك.. فيه يرقص الراقصون ويتمايل المغنون.. وتغني الراقصات وتترقص المغنيات والممثلات علي واحدة ونص.. وفيه من الميوعة والدلع والكركعة والضحك والفرفشة والنعنشة والمغنشة مايشيب له الوالدان وتهيص له البلدان..كل هذا وذلك في شهر رمضان.. الذي يذوق فيه الناس من السنة إلي السنة طعم الضحك والهزار ونسيان الهموم التي تملأ الدار ولا بأس في الليالي الرمضانية البهية.. من هز البطون والأرداف وتلعيب الحواجب إذا لزم الأمر.. نهضم ماهبرناه من لحم ودجاج وسمك وخشاف.
لا تظلموني ياكرام.. فأنا لم أقل هذا الكلام.. ولكنه لمولانا وعمنا الإمام تقي الدين المقريزي الذي أبي أن يرحل عنا إلا بعد أن يجلس أسبوعاً بحاله يبحلق بعينيه في شاشة التليفزيون ويهز كتفيه ويمصمص بشفتيه كما يفعل الآن ويحدثني بهذا الكلام الذي فيه .. علي حد قوله.. كل المرام !
مولانا المقريزي يتكلم : سيبك يارجل من ألاعيب التليفزيون.. ولا يهم أن تتفرج علي المسلسلات المقررة علينا في كل عام.. والهزار والدلع والخروج عن صالح القول والحال وتعال نتفرج علي هذه الزفة السلطانية التي تخرج بالخيل والاعلام ويتقدمها الخليفة.يزغدني في جنبي وهو يقول : هاهو الخليفة عندكم قد ظهر وكنت تفتي وتقول لي إن عصر الخلفاء قد مضي وغبر.
قلت وأنا أكتم ضحكة في صدري : خليفة إيه يامولانا : ده حتة ولد صغير قاعد ومسندينه فوق الحصان ولابس عمة خضراء أكبر من حجمه.. وبعد أبوه الخليفة الكبير ما مات .. مالقوش غيره يمسك الخلافة..
يسألني : الخلافة المصرية !
قلت: ياعمي..خلافة إيه بس.. ده شيخ طريقة من الطرق الصوفية المصرية.. واللي شايفه قدامك دلوقتي في الزفة السلطانية يطلقون عليه لقب الخليفة.. ولا هو خليفة ولا يحزنون.. هو شيخ مشايخ الطرق الزركشية.. ولما يكبر يبقي خليفة لاتباع هذه الطريقة !
قال : وهو يضرب كفا بكف : إنها تشبه موكب الخليفة الظاهر الذي جلس علي كرسي السلطنة في مصر بعد رحيل الحاكم بأمر الله.. وكان مازال طفلاً صغيراً عندما طاف بشوارع القاهرة لكي يشاهده الحاضر والعابر ويدعون له بطول العمر علي المقابر.
قلت ونحن نتفرج علي زفة الخليفة : يامولانا إنها تشبه علي زمانكم زفة الحكام.. الذين يمشي من خلفهم ومن حولهم ومن أمامهم وعلي يمينهم وعلي يسارهم الأرزقية والهبيشة والهليبة والآكلون علي كل الموائد.. والمستفيدون بالحاكم وخيراته.. والمتمتعون بالامتيازات والهبات والمنح الأجنبية بالدولارات والشقق والحوافز والمكافآت والسفريات والعمرات.. وتجدهم في كل عصر وكل أوان.. وليس لهم دين أو ملة أو خلق.. دينهم الدينار والدولار.. وملتهم النفاق وأكل لحوم الأكتاف وخطف الرغيف من أفواه الغلابة والمساكين.. قال في لحظة تجل وصفاء : تطلقون عليهم في بلادكم اسما أعجبني كثيراً وتمنيت لو استعرته منكم..
قلت : تفضل حتي قبل أن أسمعه منك.
قال : كذابين الزفة !!
قلت : صدقت يامولانا.. والله إنك لمؤرخ أروبة.. لقد وضعت أصبعك علي الخطر الخفي الذي يأكل خيرات البلد ويحرم منها من يستحقونه.. وهم يأخذون كل الامتيازات وترسو عليهم وحدهم المناقصات والمزادات ويبنون العمارات أبراجاً .. ويجمعون المال أثقالاً..ويحتمون بمناصبهم وكراسيهم وحصاناتهم أو مناصب وكراسي وحصانات أقربائهم ومن يقف خلفهم ويحمي ظهورهم !
....................
....................
تمر من أمام أعيننا الزفة السلطانية بالأعلام والبيارق يحملها المريدون.. يتقدمها الخليفة الصغير راكباً حصاناً مطهماً مزركشاً يشبه حصان الحلاوة ومن فوقه الفارس رافعا سيفه الذي كنا نشتريه في مولد النبي عندما كنا صغاراً..
وأضحك في سري وأنا أتذكر أن أول قطعة كنا نأكلها من الحصان الحلاوة هي الفارس الجالس فوقه.. والباقي كانت جدتي تصنع لنا منه طبقا شهياً أحمر اللون اسمه البالوظة !
أميل علي أذن مولانا الواقف أمامي بجسده العريض وعمامته العالية التي تأكل من أمام عيني ثلاثة أرباع المشهد.. وأسأله بخبث مصراوي : لقد مكثت أسبوعا بحاله ضيفاً علي لا تكاد تفارق شاشة التليفزيون.. تتفرج علي الأفلام والمسلسلات.. ما قولك في هذا الجهاز العجيب ؟
قال دون تفكير : إنه والله لجهاز عجب.. كل نسائه لعب !.. قالها بضم اللام وفتح العين وتسكين الباء.
ثم سكت فجأة وأمسكني من يدي ومضي بي بعيداً وهو يقول وعلي وجهه بان الغضب : أي بني.. لماذا تفعل بي مافعلت ؟
قلت : وماذا فعلت يامولانا ؟
قال : تجعلني أتحدث عن نسائكم بهذا الكلام وقد سمعتني امرأتي !
قلت : أم حماد..أين هي ؟
قال : كانت تقف كعادتها تتنصت خلفي تماماً..
قلت : ومعها عبدان أسودان في لون القلم الأبنوس ينوءان بما يحملان من شيل ولفائف وبضائع ومشتريات !
قال : نعم حتي أفرغت عشرة أكياس من الدينارات الذهبية.
قلت : ألم تشاهد معك المسلسلات والأفلام علي شاشة التليفزيون؟
قال : نعم، وقالت يا لنساء مصر الكواحل المزججات الحواجب : أنصاف العرايا.. لماذا يظهرن للناس وشعورهن مصبوغة ووجوهن ملونة وماظهر منهن أكثر مما خفي .. أليس هناك رجال في هذا البلد ؟
قلت : والله عندها حق.. الرجال سافروا.. هاجروا انشغلوا عن نسائهم من أجل لقمة العيش .. وتركوا زوجاتهم وبناتهم وأولادهم عرضة للضياع والانفلات.. أو تراخوا واستكانوا وتركوا الحبل علي الغارب ولم تعد الكلمة كلمتهم ولا الشوري شورتهم.. العصر غير العصر يامولانا والرجال ليسوا هم الرجال..
قال : وماشهدته علي شاشة التليفزيون هل هو حقيقة ما يجري في بلدكم ؟
قلت : يامولانا إنه تمثيل في تمثيل علشان الممثلات تتغندر وتلبس وتتزوق وتاخد الملايين وكمان الممثلين والاعلانات تزيد.. والمحطات تسترزق.. والناس تتسلي وتتفرج وتنسي همومها وبلاويها !
قال : كله كوم وحكاية البقليقة دى كوم !
قلت : أي بقليقة هذه يامولانا ؟
قال : ياأخي ألا تعرفها .. إنها هذه الكرة التي يجري وراءها خلق الله يشوطونها بأقدامهم أو برؤوسهم ويتصايحون ويتشاتمون ويلقون بعضهم البعض بالطوب والحجارة..
قلت دي الكورة.. ابعد عنها وحياتك لأنها التسلية الوحيدة للشعب المصري الآن.. وقد انشغل الناس بها وأصبحوا شيعاً وأحزاباً.. وخليهم كده متفرغين أحسن للكورة والزمر والطبل والرقص في ملاعبهم !
قال وهو يضرب كفا بكف : وتقولون علي عصرنا نحن عصر الطبل والزمر والرقص !
..................
.................
أصحب مولانا إلي مقهانا الذي جلسنا فيه أول ليلة له من ليالي رمضان. ولكنه لم يكن لينا طبعاً كعادته وبادرني بقوله في عتاب : كيف أذهب إلي المقهي ومعي امرأتي ؟
قلت : ألا تري يارجل رتل النساء الصائحات الضاحكات المسرسعات الشاربات للنارجيلة جالسات دون خجل ودون رجال علي المقهي أمامك !
قال : إلا امرأتي.!
قلت : طيب.. نذهب إلي مقهي مستور فيه أماكن للعوائل.
قال : هذا كلام رجال..
قلت لنذهب إلي مقهي نجيب محفوظ في خان الخليلي.
قال : أليس هو كاتبكم العظيم صاحب جائزة نوبل كما سمعت.. أترك الكتابة والديباجة وديوان الانشا وأصبح صاحب المقهي ؟!
قلت : لا طبعاً.. لقد أطلقوا علي المقهي اسمه تكريماً له وتمسحاً باسمه.. ولأن معظم قصصه دارت في هذا الحي الشهير..
نذهب إلي المقهي مولانا وزوجته والعبدان وأنا..
لم أشاهد وجه امرأته.. فقد كانت تضع حجاباً وطرحة سوداء خفيفة فوق وجهها.. جلست هي وحدها في ركن وجلسنا أنا ومولانا غير بعيد عنها.. بينما مكث العبدان خارج المقهي ينتظران.. أسأل معلمنا : أكانت المرأة المصرية محجبة علي عهدكم ؟
قال : كانت المرأة عندما تخرج إلي الأسواق تضع حجاباً علي وجهها..
قلت : لقد قرأت في كتاب «تاريخ الحضارة الإسلامية» للمؤرخ عبد المنعم ماجد، وفي كتاب «النجوم الزاهرة» لصديقك ابن تغري بردي،وفي كتاب «المرأة في مصر في العصر الفاطمي» للباحثة المدققة الدكتورة ناريمان عبد الكريم أن المرأة في مصر كانت تضع الحجاب عندما تخرج من المنزل.. فلقد عرف منذ أن فرض النبي صلي الله عليه وسلم النقاب علي زوجاته.. ثم انتشر النقاب بعد ذلك بين معظم الشعوب التي فتحها المسلمون ومنها مصر.. ولقد عرفت المرأة النقاب في العصر الفاطمي ولم يقتصر علي المرأة المسلمة، بل وضعته المرأة غير المسلمة بدليل وجود بعض أنواع للحجاب في قوائم الجهاز الخاصة بالمرأة اليهودية.
كما استعملت المرأة الفاطمية الحجاب، فلقد كانت بنت الملك تضع الحجاب عند الخروج من القصر، ولكن يبدو أن الحجاب لم يكن شائعا بين كل المصريات، وذلك لأن الخليفة الحاكم بأمر الله أصدر أمرا في عام 1005 ميلادية بألا تكشف امرأة وجهها في طريق ولا خلف جنازة، وهذا يبين أن بعض النساء كن قد تخلين عن الحجاب وخرجن إلي الطريق سافرات.
ومن أنواع الحجاب التي عرفتها المرأة القناع أو المقنعة أو التقنيعة.. وهو عبارة عن قطعة من القماش تضعها المرأة علي رأسها وتلف بها وجهها ويثبت تحت الإزار، وكان يصنع من القماش الموصلي »الموسلين« أما النقاب فكان يغطي الوجه أيضا ولكن به فتحتين للعينين..
..................
...................
يتأمل مولانا ثلاث نساء يجلسن أمامنا »علي سنجة عشرة« كما يقول العامة.. يرتدين ثيابا «آخر موضة».. الملابس التي تكشف أكثر مما تستر والبنطلون الأسود اللاصق.. والسيجارة أو الشيشة علي الشفاه تتدلي ودخانها دوائر من حول الوجه.. ويقول لي: أهكذا تلبس نساء مصر؟
قلت: ليس كلهن..
قال: لا.. بل كلهن تماما كما يظهرن في جهازكم العجيب الغريب الذي يسمونه التليفزيون!
قلت: ألا تري الفتيات والنساء في لباس الحجاب أو في لباس محتشم تماما، مثلما تلبس نساؤكم؟ ولكن دعني أسألك: هل كانت كل طوائف النساء يلبسن نفس الأردية والملابس؟
قال: لقد كانت نساؤنا يلبسن ملابس جميلة ولكنها محتشمة.. والمرأة الذمية كانت ملابسها تختلف..
أسأله: من هي المرأة الذمية؟
قال: المرأة التي ليست علي دين الإسلام، كانت المسيحية تلبس إزارا لونه أزرق، واليهودية ذا لون أصفر وتلبس في قدميها «السرموزة» وهو خف ظريف، وقد أمر الحاكم بأمر الله أن تلبس كل واحدة سرموزا أحمر في القدم اليمني وآخر أسود في القدم اليسري!
قلت: لقد قرأت في «النجوم الزاهرة» في أخبار مصر والقاهرة لصديقك ابن تغري بردي.. أن المرأة المصرية استعملت القبقاب الذي كان يصنع من الخشب ويرصع بالصدف أو العاج أو الأبنوس ويزين برسوم عربية..
قال ضاحكا: ولا تنس يا عزيزي أن القبقاب كان سلاحا تستعمله النساء للقتل ليس فقط في العصور اللاحقة، ولكن حدث أيضا في العصر الفاطمي أن استخدم نساء الخليفة الظافر القباقيب في قتل نصر بن عباس الذي كان سببا في قتل الخليفة!
قلت: وقد قتلت الجواري سيدتهن شجرة الدر بالقباقيب في حمام منزلها.. وألقين بجثتها من نوافذ القصر!
قال وهو يلتفت خلفه إلي حيث تجلس زوجته أم حماد.. وقانا الله شر هذه الميتة الفظيعة!
قلت: كم كان عمر زوجتك عندما تزوجتها؟
قال: لم تكن قد تعدت الثانية عشرة من عمرها.. كانت صبية مليحة ولكنه الزمن!
قلت : اثنا عشر عاما وتتزوج؟!
قال: هكذا كنا.. ألم تسمع أن الخليفة العاضد.. قد تزوج وهو في الحادية عشرة من عمره؟
قلت: وكانت زوجته في مثل سنه تقريبا وربما أقل!
قال: نعم..
قلت: وكم دفعت مهرا؟
قال: »كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه كل ما يصدق عليه اسم المال يصلح أن يكون مهرا«
قلت: لم أعرف كم دفعت بالضبط؟
قال همسا حتي لا تسمعه أم حماد: ربع دينار.. أي أقل من ثلاثة دراهم؟
قلت: وكم كان مهر الفتاة الموسرة الغنية؟
قال: الطبقة الغنية في حدود ألف دينار.. والطبقة المتوسطة ثمانون دينارا.. والفقيرة ديناران أو أقل!
قلت: وأثمان جهاز العروس؟
قال: كان جهاز عرائس الفسطاط لا يتجاوز المائة دينار.. وفي الطبقات الفقيرة خمسين دينارا..
قلت: والحكام والولاه والسلاطين؟
قال: حدث ولا حرج.. هل تتصور أن ابن كلس وزير الخليفة العزيز قد كلف جهاز ابنته مائتي ألف دينار؟!
.....................
...................
يطلب مولانا المقريزي جنزبيلا ونارجيلة ويأمر لامرأته بطبق من الكنافة المحشية لوزا وجوزا.. ولعبديه الجالسين أمام باب المقهي في «الطراوة» سطلا من العناب.. ويأمر لي كأنه صاحب الدار بفنجان من القهوة العربية حتي أصحصح معه ولا أنام..
ومازلنا فى الشارع الذى ولدت فيه القاهرة.
ولكن ذلك حديث آخر{
Email:[email protected]
لمزيد من مقالات عزت السعدنى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.