ما أكثر ما كُتب – وما سيُكتب لاحقا – وما قيل وما سيقال عبر محطات الأثير، والفضائيات، والدروس الدينية فى مساجدنا العامرة بالمصلين عن فوائد ومآثر الصيام المتنوعة، وتهذيبه للنفس المؤمنة، وترويضه لشهواتها وجنوحها للمعاصى، وهى كلها صحيحة ولا غبار عليها وليست موضع شك، لكن هناك جانبا أعظم وأعلى شأنا يغفل عنه الكثيرون وأظنه الأجدى بالتركيز عليه والتشديد على البحث عنه بدأب، لأنه الجائزة الكبرى لمن يُحسن استغلاله وتوظيفه فى تفاصيل ودقائق حياته اليومية، وتواصله مع بيئته والحلقات المتصلة بها. جائزتك هى عودتك لفطرتك وطبيعتك الانسانية السوية القويمة، وأن تتذكر أنك انسان كرمه المولى على مخلوقاته كافة، فمعظمنا يفطن لتلك الجزئية مؤقتا خلال الليالى الايمانية لرمضان بحكم التأثر والانفعال اللحظى بالأجواء الروحانية السائدة منذ بدايته، ولذلك ترى حملات «تبرع ياأخى» ذائعة ومتوهجة فى الشهر الفضيل لعلم من يخطط لها أن الاستجابات ستكون فى أوجها، فهم يلعب على الوتر الانسانى المختفى خلف أسوار عالية مشيدة فى أعماق أعماقك ويحايله ويستفزه للخروج. وما أن ينفض المولد ويلملم رمضان حقائبه إيذانا بالرحيل، حتى ينزوى الانسان داخلنا ويظهر كائن متوحش تغلب عليه الأنانية المفرطة، فهو يكترث أيما اكتراث بما يخصه فقط، ولا يلقى بالا بالآخرين، الذين لا يساوون خردلة فى نظره، وان استدعت مصلحته فرمهم ودهسهم بالنعال الغليظة فلا بأس، وما أيسر أن يبرر الواحد منهم أفعاله النكراء، ويتمادى المرء فى أنانيته لمستويات تهدد كيان المجتمع ومفاصله، وما مسلسل تسريب امتحانات الثانوية العامة سوى احد التجليات العاكسة لهذه الحقيقة المفجعة المؤلمة، فمن يسربها يتجرد من خواصه ومكوناته الانسانية غير عابئ بالاضرار الجسيمة التى ستقع على رأس المجتمع، والقفز فوق مبدأ تكافؤ الفرص، الذى يمثل نفطة اتزان للقوام المجتمعى، ويدفع بالمجتهدين والمثابرين للواجهة وليس الغشاشين الذين خدروا ضمائرهم بقبولهم شغل مواقع أكبر من امكانياتهم المحدودة بأسلوب الغش نفسه الذى أدمنوه. عندما تتذكر أنك انسان ستنضبط سلوكياتك وحركاتك وسكناتك فى كل مكان، وستقدر وسترفع عاليا لواء العمل والجد والتعب، وأن كل حبة عرق تبذلها تمنحك افضلية وأسبقية عند الله وعند عباده، انسان لا يتلاعب بالناس ويبيع لهم الأوهام، والاحقاد، والسموم الفكرية، والكراهية والبغضاء. انسان يفهم مقاصد ومرامى الدين من منطلقاتها وزواياها السليمة العادلة التى يريدها رب العزة ونبيه الأكرم، بعيدا عن توهمات وتأويلات حفنة من الوعاظ الذين ابتلينا بهم ويسيئون للدين أبلغ اساءة ويلبسونه ثوب الغلو والتشدد المقيت، انسان يحترم النظام ولا يحتاج لمن يسير خلفه للتأكد من التزامه وتطبيقه القوانين. لو أزلنا التراب المتراكم على الانسان داخلنا وأخرجناه لنور الشمس الساطعة كونوا على ثقة لا تتزعزع بأن وضعنا وحالنا سيتبدل للأحسن بلا ريب، وستحل مشكلاتنا بسرعة الصاروخ، وستقل معدلات الجريمة، وأعمال العنف، والتحرش، وبقية قائمة الشرور والبذاءات التى تقض مضاجعنا، وتكدر صفو حياتنا. هذه ليست دعوة للمدينة الفاضلة أو اليوتوبيا كما يحبذ الغربيون وصفها، بل رجاء بأن نسترد الانسان المحبوس بين ضلوعنا بحيث يوجد معنا كل العام وليس 30 يوما منه وحسب. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي