كنتُ أسمع فى طفولتى من أبى ومن كل أصدقائه المثل المصرى ((اعمل الخير.. وارميه البحر)) وكانت سعادتى لاتوصف عندما تعمّقتُ فى علم المصريات، فوجدتُ فى أكثرمن كتاب (سواء لعلماء أوروبيين أومصريين.. خصوصًا سليم حسن) بوجود بردية للحكيم (آنى) يقول فيها لابنه ((اعمل الخير.. وارميه فى البحر)) أى أنّ وصية هذا الحكيم لابنه تمّ تداولها عبْرآلاف السنين. يمتزج مع هذا الكثيرمن الأمثال المصرية التى أبدعها الأميون المصريون، مثل ((لقمه هنيه.. تكفى ميه)) و(جُحرديب يساع 100حبيب)) و(لقينى ولاتغدينى)) كما أننى لاحظتُ- فى طفولتى أيضًا- أنّ شعبنا (خصوصًا فى الحوارى التى تربيتُ فيها) كانوا يأكلون خارج البيوت (خاصة فى شهررمضان) وأعتقد أنّ تلك الظاهرة لها أصل يمتد لجذورالحضارة المصرية، حيث ذكرالمؤرخ اليونانى (هيرودوت) أنه وجد عند المصريين عدة مظاهرتختلف عن المظاهرالاجتماعية عند اليونان، ومن بين تلك المظاهر- كما كتب فى كتابه الثانى عن مصر) حيث قال ((وجدتُ المصريين يأكلون خارج البيوت.. بينما نحن نأكل داخل البيوت.. ووجدتُ المصريين يقضون حاجاتهم داخل البيوت.. بينما نحن نقضى حاجاتنا خارج البيوت)) (أى أنّ أجدادنا توصلوا لشكل من أشكال الصرف الصحى) وبتحليل ما كتبه هيرودوت عن الأكل خارج البيوت، يتبيّن أنّ الظاهرة لها امتداد تاريخى، وهوما يُطلق عليه علماء الأنثروبولوجيا ((مجموعة أنساق القيم التى أبدعها شعب من الشعوب عبْرتاريخه المُمتد)) . وعند علماء الأنثروبولوجيا فإنّ الطفل يولد ولديه نوازع فطرية نحوالنُبل الإنسانى الذى يشمل (السلام) وحب الأسرة وحب الوطن وغريزة عمل الخير. وأعتقد أنّ شعبنا- بحكم تراثه الحضارى من جهة، ولشدة تدينه من جهة أخرى- من بين الشعوب المولعة بعمل الخير(وكل حسب مقدرته) وعن تجربة شخصية مررتُ بها تأكّدتُ أنّ خصائص شعبنا (الثقافية) لم تتغير، رغم تعاقب السنين والمحن، حيث كنتُ فى موقف الأتوبيس أسأل عن رقم الأتوبيس الذاهب إلى المنيل، فقال لى الشاب الذى سألته: أتوبيس رقم كذا.. وعندما صعدنا إذا به يعطى الكمسارى النقود ويطلب منه قطع تذكرتيْن. لماذا أقدم هذا الشاب على هذا التصرف وهولايعرفنى؟ وماسرهذا التصرف؟ خاصة أنّ فعل (الخير) هنا لم يكن (ماديًا) فقط ، وإنما هومُحمّل بمشاعروجدانية أهم من قيمة ثمن تذكرة الأتوبيس، خاصة عندما ترجم مشاعره قائلا: أنت مثل والدى. ولعلّ هذا الجانب (المعنوى) يرتبط بظاهرة لمستها كثيرًا، عندما أصعد الأتوبيس فأجد من يترك الكرسى الجالس عليه ويُصرعلى أنْ أجلس مكانه. فعلها معى من هم فى سن الشباب، وفعلتها معى بعض السيدات، بل فعلها معى رجل عمره يقترب من عمرى، ولكنه أصرّعلى أنْ نقتسم المسافة بيننا. وبالرجوع إلى الحضارة المصرية، فإنّ المؤرخ المصرى (مانيتون) ابن سمنود ذكرواقعة مهمة لها علاقة بصيام أجدادنا المصريين القدماء، ولها علاقة- أيضًا- بطبق (الكشرى) وهذا الطبق تبيّن أنه سبق عصر(أوزير) ووفقًا لما كتبه (مانيتون) فإنّ الكاهن (دب- حن) من أون (= عين شمس) أعلن أنّ الآلهة طلبتْ منه (وهونائم) أنْ يُشرّع فى أرض مصرشعيرة الصيام ليوم واحد، من فجراليوم11من شهربشنس (= مايو) حتى غروب (رع) أى غروب الشمس، على أنْ يكون الصيام الامتناع عن الأكل والشرب. ويكون الافطارمن حبوب القمح والعدس والفول والحمص والثوم والبصل.. ويكون الطهى فى آنية من الفخار، وعلى نارسيدة السماء (نوت) وعند سليم حسين وغيره من علماء المصريات، العديد من النصوص التى تحض على أنّ (القادر) يعطى غيرالقادر. والغنى يمد يده للفقير..إلخ. وبالرجوع إلى الحضارات القديمة، وجدتُ بوذا يقول (ضمن عشرات الحكم): ((إذا زرعتَ شجرة.. فلا تقطف كل ثمارها.. اترك بعضها للإنسان العابر.. وبعضها للطيرالمُهاجر)) أما كونفوشيوس فقال ((أحب لأخيك ما تحبه لنفسك.. ولاتفعل بأخيك ما تكرهه نفسك)) وهنا يتأكّد صدق ما توصّل إليه علماء الأنثروبولوجيا من أنّ الطفل (الإنسانى فى كل مكان) يُولد وداخله نوازع الخير. وأعتقد أنّ نظرة إلى ما تفعله الممثلة الأمريكية (أنجلينا جولى) وغيرها من الفنانين الأوروبيين، من أعمال خيرية تؤكد أنّ الخيرلايحتاج إلى عامل خارجى، والعبرة بالمناخ وإمكانيات كل إنسان.