تقول الحكايات الشعبية الألمانية إن "فاوست" كان رجل علم، لكنه باع نفسه للشيطان واشتري ملذات الحياة، ثم جاء الفيلسوف الشهير جوته وحولها لمسرحية أدبية فكرية شهيرة - كما نعرف في تراث المسرح العالمي - ويبدو أن الكاتب "عبد الرحيم كمال" قد استلهم فتنتها جيدا في مسلسله "ونوس" من وحي "شذرة فاوست" التي أكمل "جوته" كتابتها عام 1808م، وأيضا مسرحية "فاوست الجديد" للأديب المصري الكبير "علي أحمد باكثير" التي تحكي عن الصراع بين الإنسان والشيطان عبر شخص يستدعي الشيطان، ويعقد معه اتفاقًا لخدمته طوال حياته مقابل الاستيلاء علي روحه بعد الممات. الثابت أن "كمال" يمتلك عالما روحيا ولغة فريدة تعكس ذكاء مغايرا لمفهوم الصورة التليفزيونية في سحرية الاختزال وشغف الأسرار، كما تجلي في مسلسله "ونوس"، والذي تدور أحداثه في إطار دراما اجتماعية مغلفة بحس كوميدي خفيف، ما حقق له تميزا ملحوظا علي مستوي الجودة الدرامية في قلب السباق الرمضاني لهذا العام، بل إنه كان جديرا بالمشاهدة بما يحمله بين طياته من مبررات فنية قوية، تمنحه التفرد علي مستوي الفكرة وغيرها من عناصر التشويق والصنعة الفنية وجودة الأداء وبراعة الإخراج طبعا. هذه المرة يحملق النجم الكبير"يحيي الفخراني" في الكاميرا بطريقة مختلفة، ليكسر حاجز التوقع هذا العام في ظل عودته بمسلسل يحاكي الحياة المعاصرة في المدينة، علي عكس ما شهدناه من قبل في مسلسلات مثل : "شيخ العرب همام" و"الخواجة عبد القادر" و"دهشة" ، حيث يعود ليرتدي ثوبا جديدا ويعاصر حياتنا الحالية، وبرغم تفاصيلها المعقدة وأزماتها الحادة، إلا أنه استطاع بحرفيته أن يوقعنا في دائرة من الغموض مع شخصيته الجديدة في المسلسل، حيث ألبسها الإبهام والحيرة في التعرف علي هويته، من هو"ونوس" ، وكيف يحرك الأحداث ويدفع الشخصيات إليها بطريقة تبتعد عن الواقع بنفس القدر الذي تجعله واقعياً جدا ... هي مفارقة مذهلة إذن. ويبدو الأمر اللافت أن "الفخراني" في أدائه اقترب من الحس الإنساني بطريقة جيدة تبتعد عن المواقف الإنسانية المألوفة كالحب والكره، والطمع والرغبة في الثروة، فرغم أن هذه "التيمات" موجودة في المسلسل إلا أن الإبن المخرج " الفخراني الصغير" أسهم في إحداث التوازن المطلوب، فجاء أداء الأب" الفخراني الكبير" بطريقة مبتكرة وإنسانية وذات طابع فلسفي، وبحس كوميدي خفيف الظل، استطاع أن يحرك المطامع، ويغوي النفوس ويزين لها أفعالها، مع تنوع الرغبات كالمال وحب الذات وغواية النساء، حتي أنه وضعنا – بأداء عبقري - طوال الحلقات الخمس الأولي في دائرة التوقع: هل "ونوس" هو الشيطان فعلاً، أم أنه جندي من جنوده، فلا يمكن اكتشاف دوافعه من خلال تصرفات نمطية ومألوفة، ولكن من خلال باعث مجهول يدفع المشاهد للتساؤل كل لحظة عن هوية هذا ال "ونوس" وكيف يؤثر في الآخرين بتصرفاته المريبة والمدهشة في آن واحد؟. ربما تكشف لنا الأحداث المتبقية خلال "20 حلقة" قادمة تفاصيل أكثر حول دوافع "ونوس" للقيام بهذه التصرفات، لكن الفكرة نفسها ومعالجتها العصرية جعلتها من البداية جديرة بطرح الأسئلة حول هويته، وبدلاً من التوصل لإجابة شافية كما يحدث عادة مع مسلسلات "تُحرق" أحداثها منذ الحلقات الأولي، يبقي المشاهد مستمتعا بتطور أحداث السيناريو، خاصة أن التشويق هنا يغني عن الوصول سريعا لخط النهاية. وقد أسهم في تعميق الطابع الإنساني الذي يغلف أداء "الفخراني" ما نلمسه جيدا في أداء الفنان القدير "نبيل الحلفاوي"، الذي جسد شخصية الأب "ياقوت" الذي يهجر زوجته وأبناءه، ويختفي لمدة 20 عاما بحرفية عالية، وببراعته المعهودة في الأداء الصعب يتماهي مع الشخصية بأسلوب يتسم بالسهل الممتنع، حتي تخال نفسك أمام شاعر بوهيمي يستخدم الصور والأخيلة والاستعارات والكنايات، في معالجة الانفعالات والعواطف والأفكار الكامنة داخل الشخصية، ما جعله في أدائه يحاكي الواقع بأسلوب مشوق وممتع يعمل علي جذب اهتمام المشاهد وتحريك مشاعره علي نحو وفير. وكذلك المبدعة جدا "هالة صدقي" في دور الأم "إنشراح"، حين قدمت لنا نوعا من الأداء الدرامي الشاق، بفعل مزج متعمد بين "التراجيدي" وكوميديا "الفارس"، وبأسلوب يؤكد خبرتها في دراسة الشخصية قبل تناولها أمام الكاميرا، ومن ثم فقد عبرت عن مآساتها بقدرة فائقة ومستحيلة إلي الحد الذي يدفع المشاهد دفعا ليتعاطف معها في لحظات الخوف والشفقة، وهو تكنيك استخدمته هذه المرة - علي غرار تجسيدها لدور "الغازية" في "حارة اليهود" العام الماضي- كمدخل لفهم نفسها وفهم العالم الذي تعيش فيه، وعلاقتها بأشخاص آخرين في ظروف خارجة عن إرادتهم فتحقق لها النجاح الكامل. كما يحسب في سياق الإجادة ذاتها أيضا، حسن أداء كل من : "محمد شاهين" في استخدامه الجيد للغة الجسد في أداء دور "عزيز" سائق التاكسي، و"حنان مطاوع" في دور الأخت تعيسة الحظ في الأسرة والزوج، و"نيقولا معوض" في أداء دور داعية إسلامي عصري مصنوع بفعل الشيطان، وما يميزه أكثر تمكنه من اللهجة المصرية بدرجة مدهشة في أولي تجاربه في الدراما المصرية. [email protected]