الطابور مفرح, والشمس حارقة, ولا يخلو الامر من النكتة المصرية, بعض منغصات من مندوبي بعض المرشحين لخداع بعض البسطاء بحجة شرح الإجراءات.. عيب كده يا استاذ!.. وانت مالك يا اخي؟.. سأطلب لك الشرطة.. ولا حياة لمن تخاطب.. ضحكت من كل قلبي عندما قال احدهم: انت يا راجل يا عجوز انت خليك في حالك, إحنا عارفينكم يا فلول.. وبعد شد وجذب حضر ضابط جيش, طلب من المندوبين بحزم ان يغادروا اللجنة.. عند المغادرة, سعيدا بأداء واجبي, وفرحا بحقيقة ما كان حلما, بالقرب من مدخل المدرسة البعيد, كانت مجموعة من بسطاء النساء يتزاحمن منهكات.. لاحظت بحزن أن كل واحدة منهن تحمل منشورا عليه شعار أحد المرشحين, وواحد من المندوبين الذين سبق طردهم يسوقهن.. طردت بسرعة المشهد الأخير, لم أكن أريد أي سحابة علي مشهد أكبر تعبر فيه مصر خطوتها الأولي المتعثرة إلي الحرية.. قلت لنفسي في طريق العودة: اذا انتهت هذه المرحلة علي خير, أظن ان الجيش المصري يستحق التقدير, وربما الاعتذار.. لقد صافحت كل الجنود حول لجنة الانتخاب وقد وقفوا تحت الشمس الحارقة بكل انضباط ورجولة يؤدون مهمتهم التاريخية.. تحية للرجال.. كتبت ما تقدم وتحت نفس العنوان بعد أن انتهيت من التصويت.. ولكنني اليوم, وبعد ظهور الجولة الاولي, وجدت أنه يجب أن أضيف سطورا جديدة.. لقد كنت أدرك منذ بداية الثورة أنه لكي تتغير مصر لا يكفي إزاحة الحاكم وأركان نظامه, بل لابد من اقتلاع النظام نفسه بكل جذوره العفنة التي انتشرت في التربة المصرية فلوثتها, ومن أسف أن أغلب من يتصدر المشهد الثوري الدافق لم يكن سوي بعض هؤلاء الذين عاشوا وتعايشوا, اقتاتوا وبشروا في زمن تزييف الصناديق, يتسلقون كاللبلاب جدران الثورة كي يواصلوا مهمتهم غير المقدسة, ولكن هذه المرة في تزييف الوعي, وقد كتبت في ذلك بعض المقالات.. وبعد انتهاء الجولة الاولي فإن كل ما أرجوه الآن هو ان تستمر خلافات المصريين محصورة في صناديق انتخاب.. ألا تكون أبدا بالسكاكين والبنادق في الشوارع والميادين.. فما حدث ليس الا صفحة وهو ليس نهاية القصة.. وعلي الجميع القبول بنتائج التصويت أيا كانت, وعلي المعترض ان يعمل منذ اليوم علي تغيير ذلك بآليات الديمقراطية السلمية.. لقد خطونا خطوة للأمام, لا شك في ذلك, ولكن لا يزال الطريق طويلا.. وسوف نصل بإذن الله.. ولكي أكون محددا, فإنني أري أن الثورة هي فن التغيير, والسياسة هي فن الممكن.. من لديه القناعة بأن هناك تغييرا, فعليه ان يفكر في الممكن, ومن لديه قناعة بعكس ذلك, فليس أمامه سوي مواصلة الثورة.. الخيارات صعبة, ولكن هناك مسئولية علي قادة الرأي كي يحددوا اتجاه البوصلة.. بلغة السياسة تملك قوي الثورة رصيدا من الأصوات يساوي ما حصل عليه المرشحان الرئيسيان, اي ان تلك القوي تملك موقفا تفاوضيا قويا, تستطيع اذا ارادت ان تفرض بعض الشروط والضمانات.. ومن ناحية اخري, وبلغة الثورة, يجب ان يلاحظ الثوار ان نصف الناخبين فقط شاركوا في التصويت, وتفسير ذلك التصويت السلبي متنوعة, ولكن قد تعني نفاد البخار الثوري لدي غالبية معتبرة من الشعب, فضلا عن ان الألغام والمخاطر كثيرة قد تؤدي الي نكسة (انقلاب الجماهير ضد الثورة وحكم عسكري صريح بالاختيار أو الاضطرار).. ولا توجد وصفة سحرية, والنقاش يدور ساخنا الآن.. وكل خيار له ثمنه, ولكن الخيار الاسلم يجب ان يتوخي دعم غالبية الجماهير, وتقليل حجم الخسائر, وتفادي النزيف كلما كان ذلك ممكنا.. او هكذا افكر وأظن.. الديمقراطية ليست مجرد ممارسة عن طريق صناديق الانتخاب, وإنما هي بناء كامل يشمل حركة المجتمع كله, فمن الممكن أن يوجد المجلس النيابي, والصندوق الانتخابي, وأصوات الناخبين, ولكن يغيب وعي الناخب, وسلامة الصندوق, وتأثير المجلس, وحينها يصبح الجهاز التشريعي مجرد ديكور شكلي يعكس المظهر ويخفي الجوهر القبيح, ولو أخذنا فقط مسألة وعي الناخب ووضعناها تحت المجهر فسوف ندرك مدي صعوبة وأهمية الإصلاح, فهذا الوعي نتاج عوامل كثيرة منها مثلا العملية التعليمية وما تسهم به في هذا الوعي, والنظام القانوني وما يوفره من كفالات للحقوق المرتبطة بالممارسة الديمقراطية, وسلامة الجهاز القضائي, ودور وسائل الإعلام, والخطاب الديني, ثم علاقة ذلك كله بالنظام السياسي السائد, ومن ناحية أخري يلعب العامل الاقتصادي دورا لا يستهان به في تشكيل الوعي, لأن مجموعة القيم الديمقراطية لا تأتي تلقائيا بمجرد تطبيق فلسفة الحرية الاقتصادية, بل إن هذه الفلسفة عند تطبيقها في مجتمعات غير كاملة النمو والوعي تؤدي إلي تعميق الاستبداد والاستغلال في أبشع صوره, كما أن الإنسان الذي لا يتوافر له الحد الأدني من احتياجاته المعيشية لا يمكن أن تتوافر له الإرادة الحرة في الاختيار التي هي أبرز أسس الممارسة الديمقراطية, كذلك تلعب القيم الاجتماعية السائدة والمسيطرة دورا كبيرا في تشكيل الوعي, وبعض هذه القيم قد تكرست وتحصنت علي مر الأزمنة بشكل يجعل من العسير خلخلتها إلا من خلال قيم جديدة تتولي الطبقة المتوسطة مهمة الترويج لها ونشرها مع استعدادها لتحمل التضحيات التي يتطلبها ذلك. بعد نكسة يونيو..67 كان لابد ان نمر بحرب الاستنزاف قبل ان نصل الي العبور.. ارجو ألا تطول فترة حرب الاستنزاف.. المزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق