عظمة ورسوخ مدرسة التلاوة المصرية تكمن فى تفردها، واحتفاظ أساطينها الذين زخرت بهم بشخصيات متميزة لها خصوصيتها ومذاقها المتنوع الذى يصل بك لأقصى درجات المتعة والنشوة الروحية، والسمو الأخلاقي، ومن رابع المستحيلات أن تضبط أحدهم يقلد الآخر، فقد كانوا أعمدة شامخة تقوم عليها هذه المدرسة، ومن بين هؤلاء يتقدم الصفوف الراحل الجليل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، صاحب الحنجرة الذهبية، الذى يمثل علامة فارقة وناصعة البياض فى مدارس تلاوة القرآن الكريم فى العالمين العربى والإسلامي، وكان أداة قوية من أدوات قوتنا الناعمة لعقود متعاقبة. عبد الباسط كان محاطا بالحب والتقدير والإجلال أينما حل، وشق لنفسه طريقا وخطا فريدا وسط عمالقة القراء من أمثال الحصرى، والمنشاوى، والطبلاوى، ومصطفى إسماعيل، وأبو العينين شعشيع، إلى آخر القائمة التى لا يسعنا ذكرها كاملة، فقد كان يقرأ كتاب الله بقلبه وحنجرته، ولم يكن مَن يستمع إليه يملك سوى التحليق معه بين السحاب، وكان من القلائل الذين رتلوا القرآن الكريم فى رحاب المسجد الأقصى قبل احتلال إسرائيل القدس فى حرب 1967، وأول من قرأ القرآن فى جنوب إفريقيا عام 1966. قماشة صوت عبد الباسط صنعت من سبائك الذهب الخالص، ونغماته ماركة مسجلة، وفعلا ليس بيدنا سوى القول إنه قد أوتى من مزامير داود الكثير، ومن يعود لسجل تسجيلاته الخارجية فى المساجد المصرية والعربية والإسلامية سيدهشه أنه كان يقرأ لمدة ساعة وأحيانا ساعة ونصف الساعة، وهو ما يدل على امتلاكه صوتا عفيا شديد النقاء، وهناك تسجيل شهير له فى أحد مساجد الإسكندرية يظهر فيه بوضوح مستمع يقول بصوت جهور « ياأخى انت معمول من ايه» من شدة افتتانه واستمتاعه بصوته العذب الرخيم ، وقد أسست مدرسة لتقليد صوت عبد الباسط، مما يجعله من بين قلة قليلة نالوا هذا الشرف الكبير، بل ان بعض تلاميذها بلغوا مستوى رفيعا فى تقليده يجعلك للوهلة الأولى تظن أن القارئ هو عبد الباسط. شخصيا عاصرت واقعة تؤكد ما سبق، عندما ذهبت للعمل كمدير لمكتب « الأهرام « فى العاصمة اليابانية طوكيو، حيث هل شهر رمضان المبارك بعد شهر من وصولى أواخر عام 1996، وبحكم أننى كنت وافدا حديثا على طوكيو وليس لى دراية بدروبها ومسالكها سألت بعض العاملين فى سفارتنا أين يصلون التراويح، فقالوا فى المسجد الإندونيسى الذى لم يكن سوى صالة ألعاب فى مدرسة للجالية الاندونيسية يتم تحويلها مساء لمكان للصلاة. على كل ذهبت معهم، وما ان رفعت الايدى بالتكبير حتى ذهلت لأن صوت الامام صورة طبق الأصل من صوت الشيخ عبد الباسط، وقلت لنفسى كيف هذا فالرجل توفى منذ وقت قريب؟. وما إن سلمنا حتى توجهت كالسهم الى حيث يجلس الإمام الإندونيسى الذى صارحته بأنه نسخة كربونية من الشيخ عبد الباسط، فرد أين أنا من الشيخ عبد الباسط؟ وعرفت أنه درس فى الأزهر الشريف، ومن عشاق الشيخ, وتلقائيا يقلد صوته البديع المتفرد، وعموما يحظى عبد الباسط بمكانة خاصة بين الشعوب الآسيوية الذين يكنون له محبة جارفة، لأنه كان حريصا على زيارة البلدان الآسيوية خلال جولاته الخارجية المتعددة. إن عبد الباسط كان عملة نادرة قلما يجود الزمان بمثله، وسيظل خير أنيس وجليس للمصريين والمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها بتلاواته العطرة، ومكانته لدى المصريين فى مرتبة عالية، إذ يندر أن تعثر على مصرى لا يبدأ يومه على صوته الرخيم الناعم، فهو حبة البركة الذى يحرص الجميع على تناولها واستطعام مذاقها الحلو لأقصى وأبعد حد ممكن.