أصبحت منظومة الأخلاق والقيم في مصر تتداعي بوتيرة سريعة ومذهلة تستدعي وقفة جادة للنظر فيها, لبيان مواقع الخلل والزلل التي تسببت في تآكل أساساتها وانهيارها. وما شكوانا من تفشي الغش في امتحانات الثانوية العامة سوي شاهد من الشواهد الكاشفة للعطب الرهيب والمزمن الذي أصاب منظومتنا الاخلاقية والقيمية, والذي يتناقض كلية مع ما نعيد ونزيد فيه من أقوال مأثورة عن التزامنا الديني والأخلاقي, ومحاربتنا الفساد الذي يمثل الغش احد روافده الأساسية, فالشخصية المصرية تعيش حالة من الازدواجية العجيبة التي تصيبك بالحيرة والدوار إن فكرت فيها, وتابعت فصولها ومظاهرها. فالمواطن المصري لديه قدرة لا يشق له فيها غبار في الاتيان بالشيء ونقيضه, بالقدر نفسه من الحماس والاجادة, فهو قادر علي ابهارك وسحرك بتحديه الصعاب والشدائد, مهما تكن حدتها وعنفوانها, والتغلب عليها باقتدار في زمن قياسي, فعلها في مجابهته حكم الجماعة الإرهابية المستترة وراء الدين, وفي شق قناة السويس الجديدة, وفي تلاحمه مع الدولة وقواها الأمنية ضد خفافيش التطرف والإرهاب والتكفير. ذلك المواطن هو نفسه من يتفنن في وسائل وأساليب الغش والخداع في التعليم وفي حياته اليومية, والتعدي علي أملاك وأراضي الدولة بهمة ونشاط, وكأن الاستيلاء عليها حق مكتسب ومشروع, ويستبيح التحرش الجنسي, ويحترف التحايل علي القوانين, فهو يستطيع تكديرك واسعادك بتصرفاته غير المتسقة, وذاك جانب يتحتم علي أولي الأمر منا, ومراكزنا ومعاهدنا البحثية أن توليه ما يستحقه من دراسة وتفنيد, ولا يجب التعلق بشماعة أن الاختلالات والاهتزازات القيمية والاخلاقية في مجتمعنا رد فعل طبيعي للتقلبات السياسية بعد ثورتين, وأنه بالامكان احتواؤها وتحجيم آثارها السلبية المروعة.هذا كلام يجافي الواقع ويتعارض معه كلية, وبمثابة عذر أقبح من ذنب للتهرب من المواجهة الشجاعة والأمينة لنقد الذات والاصلاح, ولا أجد غضاضة في المصارحة والمجاهرة بعيوبنا ومثالبنا بشكل مباشر وواضح دون التفاف علي الحقائق, ورجاء عدم تشغيل اسطوانة أن بنياننا الاجتماعي لا يزال صلبا, وأن ما يحدث يعد في مجمله حالات فردية لا يمكن القياس عليها, وأن الأغلبية الوطنية بخير وسلامة, لأنك وأنا ندرك تماما أن ما نقوله عار من الصحة. هدفي ليس اشاعة اليأس والقنوط بل التبصير, والبحث عن دواء يشفي الأمراض المتوطنة في المجتمع المصري, وتحول بينه وبين الارتقاء والنهوض, إذن كيف يتأتي وقف النزيف الاخلاقي والقيمي في بلادنا؟ نوقفه بالعمل بجد واجتهاد علي3 دوائر يشترط أن تكون مساراتها وتحركاتها مترابطة ومتناغمة, حتي نحصل منها علي الفائدة المأمولة, الدائرة الأولي البيت, فالأسرة المصرية لم تعد متماسكة الأضلاع مثلما كانت, فضغوط الحياة, واللهث خلف الرزق شغل الآباء والأمهات الذين لم يعودوا يملكون لا الوقت ولا الصبر لمتابعة أحوال أولادهم وبناتهم عن قرب, وتنشئتهم تنشئة سليمة عمادها غرس القيم والأخلاق النبيلة فيهم منذ نعومة أظفارهم. هؤلاء الأبناء أسسوا عالمهم الخاص المنفصل عن محيطهم الاسري, فالولد قابع في غرفته منكبا ليس علي كتبه ودروسه, بل علي تليفونه المحمول, أو جهاز التابلت, وكذلك شقيقته, وأزعم أنه بات من النادر التئام الأسرة علي مائدة طعام واحدة, وأضحي الحديث والحوار بين أفراد العائلة الواحدة في أضيق الحدود, وإن تم فعلي السريع. إزاء ذلك فإن أطفالنا وشبابنا يستقون قيمهم واخلاقياتهم من أصدقائهم, ومن مواقع التواصل الاجتماعي, ومما يرونه في الشارع عند ذهابهم وايابهم, نظرا لغياب الدور القيادي للأسرة التي كانت تشكل الحصن المنيع للقيم والاخلاق الرفيعة التي كانوا يحرصون علي نقلها للانجال, مما حافظ وقوي بالتبعية في الماضي الجهاز المناعي للمجتمع. الدائرة الثانية المدرسة التي أصبحت شاهدا حيا علي سوء نظامنا التعليمي وتخلفه عن مقتضيات ولغة العصر, وإخفاقنا في الخروج باستراتيجية تعليمية قومية تلبي طموحاتنا في اللحاق بركب البلدان المتقدمة علميا, وصناعيا, وتكنولوجيا, فالمدرسة لم تعد مكانا لتلقي العلم واخلاقياته وثوابته, وتحولت إلي مرتع للغش, والفهلوة, ووأد المهارات وعدم تشغيل العقل فيما يفيد, وسوقية الخطاب بين الطلاب والاساتذة, فالطالب يخرج منها خالي الوفاض, ويكفيك أن تراجع قرار وزير التربية والتعليم السبت الماضي في واقعة مشاجرة بين مدرسين في احدي محافظات الصعيد وضربهما بعضهما بعضا بالحذاء, نريد أن تعود المدرسة, كما كانت, كمحراب له قدسيته وجلاله ووقاره في النفوس والعقول, ومنارة للمبدعين. فاي أمل يرجي من تعليم يفتقر للجودة, وللمناهج الحديثة, ويهدر الكفاءات ولا يمحنها فرصة اثبات وجودها, ويعتمد علي الحشو, ومسح ما يتعلمه الطالب باستيكة فور تسليمه كراسة اجابة امتحان المادة, وتسخيره لتدمير الجهاز العصبي لآلاف الاسر في موقعة سنوية سخيفة فارغة من المضمون تسمي الثانوية. الدائرة الثالثة والأخيرة هي التلفاز, هذا الاختراع العجيب القابع في بيوتنا, ويبث عبر شاشته ما لا يخطر علي عقل بشر من الاسفاف, وقلة القيمة, والتفاهة, ويقدم نماذج مشوهة تكرس لقيم البلطجة والعنف, وتغييب العقل, والاستسهال, والكسب السريع دون مجهود يذكر, ويعلو الغث السمين في الفضائيات القابضة علي معول هدم لكثير من قيمنا, ولا تراعي مثلا حرمة شهر فضيل كرمضان. إن الدعوة لانضباط وسائل اعلامنا المرئية, والمسموعة, والمقروءة, ليست صيحة غرضها التشديد, وتكميم الافواه, وإنما مطالبة لضبط ايقاعه من أجل المحافظة علي كيان مجتمعنا, فلنبادر بالتحرك وتجرع الدواء المر الذي سيعيد إلينا قيمنا واخلاقنا المختطفة بفعل فاعل. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي