يعود وجود المسلمين على الأراضى البلجيكية إلى بداية القرن العشرين حيث لم يكن عددهم يتجاوز 6 آلاف نسمة وفقاً للاحصاء الرسمى لعام 1925. وقد شهدت أعداد المسلمين فى بلجيكا ارتفاعاً نسبياً عقب الحرب العالمية الثانية واطلاق مشروع مارشال لإعادة اعمار أوروبا وما استتبعه من استجلاب العمالة الوافدة من دول حوض المتوسط العربى-الاسلامى. غير أن الطفرة الحقيقية فى تعداد الجاليات المسلمة تعود لعام 1964 بعد الاتفاقات الثنائية التى وقعتها بلجيكا مع كل من تركيا والمغرب لاستجلاب عمالتهما. وقد اتسمت بدايات الوجود الاسلامى على الأراضى البلجيكية بما يمكن أن يوصف بمرحلة "الإسلام الهادىء" إذ اقتصرت المطالب الدينية للغالبية العظمى من العمال المهاجرين على افتتاح قاعات للصلاة فى أماكن العمل ومساجد صغيرة فى الأحياء التى يقيمون بها بعيداً عن أى توجهات سياسية. تأثر مسلمو بلجيكا-أسوة ببقية مسلمى الاتحاد الأوروبى- بعدد من العوامل التى كان لها تأثير سلبى على التوجهات السياسية والأيديولوجية لقطاع منهم نتيجة المتغيرات الإقليمية والدولية وصعود تيار الإسلام السياسى فى عقدى السبعينيات والثمانينيات، على رأسها الثورة الإيرانية والغزو السوفيتى لأفغانستان والحرب العراقية-الإيرانية . كما أدى القصف الأمريكى لليبيا عام 1986 إلى تنظيم أول مسيرة حاشدة للمسلمين فى بروكسل للتنديد بالقصف وبالسياسة الغربية تجاه العالم الإسلامى، وهو ما اعتبر بمثابة أول نقلة نوعية للهوية الإسلامية فى بلجيكا التى خرجت من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام. كما تواكبت تلك المسيرة مع بروز الجيل الثانى من المهاجرين المسلمين على الساحة البلجيكية، وهو الأمر الذى سجل استمراراً لمحاولات التعبير عن الهوية الإسلامية. ارتباطاً بذلك، أدى بروز الجيل الثانى وكذلك اشكالية التعبير عن الهوية لزيادة كبيرة فى أعداد المساجد فى بلجيكا، تجدر الإشارة فى هذا الصدد، إلى وجود نشاط ملحوظ لجماعة الإخوان فى عدد من المساجد العربية فى بلجيكا وبشكل خاص التياران المصرى والسورى داخل الجماعة اللذان يسيطران على توجهات عدد من مساجد مدينتى بروكسل وانفيرس. كما لعب كل من الإخوان وتيار السلفية الدعوية دوراً كبيراًفى انشاء آليتين مؤسسيتين-فى إطار التنافس بينهما-للتأثير على التوجهات الدينية لمساجد بلجيكا. شهد عقد التسعينيات صعود دور "الوسطاء الدينيين" على الساحة البلجيكية والأوروبية وعلى رأسهم طارق رمضان وبدرحة أقل أخيه هانى رمضان (حفيدى حسن البنا) الذى تولى الترويج بشكل أساسى -فى إطار خدمة مشروع الإخوان فى أوروبا- لفكرة الاسلام الأوروبى وحقوق وواجبات المسلم الأوروبى. لم تقتصر ظاهرة الوسطاء الدينيين على جماعة الإخوان فى أوروبا، بل امتد ليشمل الوعاظ والأئمة السلفيين الذين وظفوا شبكة المعلومات الدولية لنشر أفكارهم فى بلجيكا والدعوة للانسحاب من المجتمعات الأوروبية كاتجاه معاكس للنهج الدعوى الاخوانى. كانت البداية الحقيقية لتيارات الإسلام السياسى على يد المؤسسات الدينية العابرة للقارات،وتعود لعام 1963 بانشاء المركز الاسلامى ببروكسل تحت رعاية الجامعة الإسلامية العالمية بهدف انشاء مسجد كبير وتمثيل الجالية الاسلامية أمام السلطات البلجيكية وتعيين مدرسى الدين الإسلامى فى المدراس الحكومية البلجيكية عقب اعتراف الدولة البلجيكية بالإسلام كديانة رسمية عام 1974 إلى جانب الكاثوليكية والبروتوستانتية والأرثوذوكسية واليهودية. وقد توازى مع نشاط الجامعة الإسلامية العالمية، دور مماثل لجماعة التبليغ والدعوة الباكستانية التى بدأت نشاطها فى بلجيكا فى نهاية الستينيات . إلا أن حركة التبليغ أصابها ضعف كبير بحلول عقد التسعينيات بسبب الصراعات الداخلية، مما أدى إلى انحسار دورها بشكل كبير. أفسح ضعف حركة التبليغ والدعوة إلى بروز تيار "السلفية التجديدية" على الساحة البلجيكية على يد مجموعة من الشباب الذين درسوا العلوم الشرعية فى عدد من المؤسسات الدينية التعليمية فى المشرق العربى واليمن وبعض دول الخليج. غير أن جماعة الإخوان تعد من الأطراف الأكثر تأثيراً على الساحة البلجيكية، حيث بدأت نشاطها بشكل تدريجى خلال حقبة الستينيات-بالتنسيق مع الجامعة الإسلامية العالمية- من خلال اتحاد الطلبة المسلمين بجامعة بروكسل الحرة عام 1964 بمبادرة من الكوادر الاخوانية الهاربة من الأنظمة العربية فى الخمسينيات وعلى رأسهم سعيد رمضان (والد طارق رمضان) وعصام العطار من قيادات التيار السورى للجماعة. وقد مثل الاتحاد النواة الأولى للنشاط الإخوانى فى بلجيكا من خلال تنظيم ندوات ولقاءات كوادر الإخوان فى أوروبا كان يشارك فيها كل من راشد الغنوشى وحسن الترابى. وسرعان ما تحول اتحاد الطلبة المسلمين إلى مظلة جامعة لعدد من الاتحادات فى عدة مدن بلجيكية توحدت فى وقت لاحق تحت مسمى الجامعة الإسلامية فى بلجيكا. وقد انضوت فى أواخر الثمانينيات تحت لواء اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا -الذراع السياسى للإخوان فى أوروبا- الذى نقل مقره الرئيسى من بريطانيا إلى بلجيكا فى نهاية التسعينيات ليسهل من عملية الحشد والتعبئة ضد الأنظمة العربية لدى مؤسسات الاتحاد الأوروبى التى تتخذ من بروكسل مقراً لها. يمكن القول إن الوجه المتشدد للإخوان على الساحة البلجيكية كان من خلال نشاط المجموعات التابعةلما يطلق عليه "الجناح الأيديولوجى" للجماعة والخاضع للتيار السورى بها بقيادة عصام العطار الذى كان خطابه السياسى متركزاً على مناهضة الغرب ودعم الحركات الاسلامية فى العالم. امتد نشاط جماعة الإخوان فى أوروبا ليشمل رافدها التركى والمتمثل فى اتحاد بلجيكا الإسلامى التابع لمنظمة MILLI GORUS التركية التى تتكون من الكوادر التابعة لحزب الرفاة التركى بزعامة نجم الدين اربكان وبدأت نشاطها عام 1985 فى بلجيكا. وكان نهج المنظمة فى البداية متركزاً على دعم الحركات الإسلامية فى أوروبا فى إطار صراعها مع النظام العلمانى فى تركيا. إلا أنه بوصول اردوغان للسلطة فى عام 2003، بدأت المنظمة فى التعاون مع الدولة التركية فى إطار خدمة المشروع الإخوانى. ويلاحظ أن المنظمة تمتلك وسائل دعوية مستحدثة، فإلى جانب سيطرتها على 30% من المساجد التركية فى بلجيكا، تلعب المنظمة دوراً كبيراً فى أوساط الجالية التركية على الصعيد الثقافى والاجتماعى والتعليمى. على الرغم من أن بلجيكا تمثل نموذجاً أوروبياً يعتد به على صعيد الاندماج من خلال حرصها على انتهاج مبدأ منضبط للفصل بين الدين والدولة (عبر الاعتراف بالطوائف الدينية بعكس فرنسا التى لا تعترف بها بشكل كامل) إلا أن ذلك لم يصمد أمام التفاعلات والاستقطابات بين التيارات الإسلامية المختلفة، ومن ثم، فقد كان من المنطقى فى ظل حالة الاستقطاب التى تعرض لها مسلمو بلجيكا ما بين نموذجى الإسلام العربى والتركى من جهة وبين التيارات السلفية وجماعة الإخوان بروافدها المتنوعة من جهة أخرى،أن تمتد حالة الاستقطاب تلك على الإسلام السياسى لتشمل الحركات الجهادية المسلحة التى توافدت على الأراضى البلجيكية فى بداية التسعينيات. وهو الأمر الذى جعل بلجيكا مركزاً رئيسياً للإعداد للعمليات الإرهابية التى يجرى تنفيذها فى أوروبا بواسطة الجماعات الجهادية منذ التسعينيات، فضلاً عن احتلالها المرتبة الأولى فى المقاتلين الأجانب الغربيين فى سوريا فى الوقت الراهن باجمالى 380 مقاتلاً، بالإضافة إلى أن أول انتحارية غربية كانت بلجيكية وتدعى MURIEL DOGANQUE وقامت بتفجير نفسها فى العراق عام 2005. فى هذا السياق، يجب التنويه إلى أن الإعداد لتفجيرات مترو باريس عام 1995 تم بواسطة الخلايا التابعة للجماعة الإسلامية المسلحة فى بلجيكا، بالإضافة إلى أن تفجيرات الدار البيضاء عام 2003 ومدريد عام 2004 شارك فى تنفيذها والاعداد لها بلجيكيون من أصول مغاربية. فضلاً عن أن تفجيرات باريس الأخيرة عام 2015 التى تم تنفيذها بواسطة عناصر مقيمة فى بلجيكا، وهو الأمر الذى كان بمثابة مؤشر مبكر ومنطقى على وقوع تفجيرات مطار بروكسل فى مارس من العام الجارى. دكتوراة فى العلاقات الدولية من جامعة السوربون. لمزيد من مقالات د. طارق دحروج