تتعرض الحال الإعلامية المصرية لأنواع شتى من المؤثرات، بعضها معروف وظاهر والبعض الآخر خفى يتطلب نوعا من التنقيب فى العمق لمعرفة هذه المؤثرات أو على الأقل التكهن بها بطريقة منهجية وليست عشوائية. وإذا كانت التطورات التكنولوجية فى مجال الاتصال والبث المباشر والبث الفضائى قد جسدت عمليا فكرة السموات المفتوحة فى المجال الإعلامى والاتصال بشكل عام لمختلف الشعوب والمجتمعات، فإن التعرض لهذه التأثيرات يرتبط بعوامل اقتصادية بالأساس، بداية من توافر الطلب المجتمعى على الخدمة الإعلامية، ومرورا بوجود المستثمر الراغب فى المخاطرة والبيئة التشريعية المناسبة، ونهاية بالقدرة على المنافسة والاستمرار وملاحقة التطورات التكنولوجية التالية. ومصر ليست استثناء فى هذا الصدد. بل تقدم كل يوم دليلا على أنها تواكب التغيرات الجارية فى المنظومة الإعلامية أو المتوقع لها أن تحدث فى المدى الزمنى القريب وتفرض بالتالى أسسا جديدة للمنظومة الإعلامية ككل. ومنذ أن سمحت مصر للقطاع الخاص العمل فى مجال الإعلام والبث الفضائى من خلال شركات مصرية يملكها مستثمر مهيمن أو مجموعة من المستثمرين أيا كان عددهم، ونحن نشاهد اتجاها صاعدا لرجال أعمال يملكون قنوات فضائية نعرف جميعا أنها لا تحقق ربحا يساعد على استمراريتها كمشروع إعلامي/اقتصادي، بل كمشروع إعلامى له امتدادات سياسية ومعنويةبالدرجة الأولي، أما أبعاده الاقتصادية فلا وجود لها. وهؤلاء المستثمرون وأصحاب هذه الشبكات الفضائية لا يمكنهم الاستمرار فى تحمل تكاليف إنشاء وإدارة قناة فضائية أو مجموعة قنوات ما لم يكن لديهم من الأموال الطائلة التى تأتى من مصادر أخرى لتسد تكاليف التشغيل العالية لهذه القنوات دون أن تؤثر على وضعهم المالى الأساسى الناتج عن أنشطة واستثمارات أخرى لا علاقة لها بمجال الإعلام أصلا. والتفسير المنطقى هنا أن رجل الأعمال فى هذه الحالة يعتبر أداته الإعلامية بمثابة ذراع تساعد فى حماية أنشطته الاستثماريةالرئيسية وفى الترويج لها بطريق غير مباشر أو عن طريق الإعلان المباشر عنها فى تلك القنوات التى يملكها. أما فى حالة قيام المستثمر الإعلامى بالصرف على قنواته الفضائية من عائد إعلانات هذه القنوات أو من خلال عوائد منتجاتها الدرامية، ففى هذه الحالة يرتبط استمرار ووجود القناة الفضائية بقدرتها على المنافسة وتحقيق الربح . وما دام البقاء والاستمرار مرتبطين بالقوة، تعد التحالفات بين أكثر من كيان منافس لغرض تشكيل كيان أكبر وأقدر على مواجهة المنافسين الآخرين إحدى الوسائل لضمان الاستمرار والحفاظ على ما تم الاستثمار فيه مسبقا، فضلا عن زيادة مساحة التأثير تحت مظلة الكيان الإعلامى الجديد. وهو نوع من التكيف مع المتغيرات الأخرى التى قد يستشعرها أصحاب الكيانات المتحالفة وقد تغيب عن بال آخرين، خاصة المتغير الخاص بالبيئة التشريعية والذى من شأنه أن يضع ضوابط جديدة لم يكن معمولا بها مسبقا، من قبيل فرض شروط مالية وضمانات مؤسسية عند إنشاء القنوات الفضائية . وإذا وضعنا فى الحسبان أن هناك مشروعا لقانون موحد للإعلام ينظم العمل فى مجالات الصحافة والإعلام المرئى والمسموع والمواقع الإليكترونية، يُفترض أنه سيصدر عن مجلس النواب فى غضون أسابيع قليلة، وهو قانون يضع شرط أن يكون رأس مال الشركة المالكة لقناة فضائية بقيمة 25 مليون جنيه، وهو مبلغ كبير يُراد به أن يكون الكيان المالك لهذه النوعية من الإعلام الفضائى قادرا ماليا ولديه عناصر الاستمرار، وفى حال تعثر القناة لسبب أو لاخر، يُوظف هذا المبلغ لتسوية حقوق العاملين فى القناة وحقوق الدائنين إن وجدوا. وبالتالى فإن القدرة المالية للشركات المالكة للقنوات القائمة هى التى ستحدد فرصة استمرارها من عدمه، والواضح أن رأسمال الشركات القائمة هو أقل بكثير مما يشترطه مشروع قانون الإعلام الموحد، وهو ما سيمثل ضغطا على الكثيرين، ما لم تتم تشكيل تحالفات بين اكثر من شبكة فضائية. هذا السياق القانوني، وبالرغم من أنه لم يصدر بعد، يقدم تفسيرا معقولا لتلك الخطوة التى بدت مفاجئة للكثيرين، حيث أعلنت شبكتان للقنوات الفضائية وهما النهار وسى بى سى تحالفهما وقيامهما بإنشاء كيان موحد فى صورة شركة قابضة، ستحافظ على استمرارية كل شبكة بقنواتها وبرامجها كما هي، وقيل فى تبرير ذلك من قبل القائمين على الشبكتين أنه لأسباب اقتصادية بحتة، فى حين فسر البعض - وإن كان محدودا- الأمر كنوع من ضغوط النظام من أجل إسكات الأصوات المخالفة، مفترضا بذلك أن الشبكتين الإعلاميتين ضد النظام وهو افتراض غير صحيح والشواهد على ذلك أكثر من أن تعد وتحصي. والأرجح أن دوافع اقتصادية ترتبط أساسا بما وضعه قانون الإعلام الموحد، والمرجح صدوره، من شروط لإنشاء قنوات فضائية جديدة وعلى القنوات القائمة أن تكيف نفسها مع تلك الشروط حال صدور القانون، فضلا عن مؤثرات تتعلق بالمنافسة مع شبكات عربية تنال حظا جيدا من سوق الإعلان المصري، هما من الدوافع الرئيسية لمثل هذا التحالف المفاجئ، والذى قد يدفع آخرين لاتخاذ خطوة مماثلة. مثل هذا التحالف الجديد سيُبقى فى الغالب على السمة الخاصة بكل قناة، وما دام الأمر لن يشكل تغييرا مهما وكبيرا فى خريطة برامج الشبكتين، ولن يؤدى إلى تغيير فى فلسفة كل شبكة على حدة، لن يشعر المشاهد بفارق كبير. فالفائدة الكبرى تخص المالكين وليس المشاهدين، اللهم إلا من زاوية استمرار وبقاء الشبكتين فى الفضاء. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب