يفرق علماء الاجتماع بين الشعور بالذنب والشعور بالعار. الأول يدفع الشخص إلى الكشف عن الخطأ، والسعي إلى تصحيحه، والحيلولة دون تكراره. أما الشعور بالعار فهو ذات طبيعة مغايرة، حيث يهيمن على الشخص إحساس بالفضيحة، والرغبة في التخلص منها بانكارها، فإن لم يتسن له ذلك، يلجأ إلى التهوين من شأنها. شعور لا يؤرقه وقوع الرذيلة، ولكن يشغله الرغبة في التعتيم على الفضيحة. في حادثة قرية “الكرم”- مركز أبو قرقاص- في محافظة إلمنيا وجدنا تجليات لكل من الشعور بالذنب، والشعور بالعار. فقد جرى الاعتداء على منازل وممتلكات مواطنين مسيحيين، وتعرية سيدة مسنة من ملابسها أمام حشد من الناس إثر شائعة بوجود علاقة آثمة بين مسيحي ومسلمة. الحادث شكل بالنسبة للبعض صدمة، وشعروا بالذنب تجاه مواطنين أبرياء تعرضوا للاعتداء، وسيدة ناهزت السبعين من العمر تتعرض لإساءة بالغة، وشكل هشتاج “مصر تعرت” عنوانا لتعليقات مواطنين كثر، مسلمين ومسيحيين، على مواقع التواصل الاجتماعي، رأوا فيما حدث جرما ينبغي أن ينال مرتكبوه العقاب القانوني، وأن تتخذ التدابير التي تحول دون تكراره. هؤلاء يعبرون عن مجتمع يريدونه لكل المواطنين، يتمتعون بالأمان والمساواة، تختفي فيه انتهاك حقوق الإنسان، والافتئات على مواطنين، كل جرمهم أنهم مختلفون في المعتقد الديني. وبينما كان هؤلاء يعبرون عن شعور المواطن المصري بالذنب الذي يريد أن يرفعه عن كاهله، كان هناك أصحاب الشعور بالعار يسعون إلى انكار الحادث برمته، أو التهوين من شأنه، وبلغ الأمر ببعضهم إلي اعتبار ما حدث أمرا عاديا، لا ينبغي تضخيمه. حالة ذهنية بيروقراطية سقيمة ترى أن ترك المشاكل بلا حلول هو أفضل سبيل لحلها، وأن التعتيم على المشكلات يقضي عليها، لا يعبأون بحق مواطن انتهك، أو بكرامة سيدة أهدرت، أو شعور بالرعب تملك على مواطنين أبرياء تعرضت ممتلكاتهم للنهب والتدمير. المجتمعات لا تتقدم إذا تملكها الشعور بالعار، أو هيمن عليها الرغبة في اسدال ستار الظلام على الفضيحة، لا تزعجها الرذيلة، ولا يؤرقها حدوثها. في كل الأحداث المسماة بالطائفية، ومصر لا تعرف بالمعني الانثربولوجي طوائف، يظهر فيه سيناريو يكاد يكون مكررا اعتدنا عليه لعقود. تسري شائعة، أحيانا تفتقر إلى المنطق، في مواجهة مسيحيين، يترتب عليها تعبئة لسكان محليين مسلمين، إما بفعل أطراف تنتمي للإسلام السياسي، أو قيادات محلية متعصبة، تعتدي على ممتلكات وأرواح سكان مسيحيين، فيما يشبه العقاب الجماعي. وفي أغلب الأحيان لا يربط الضحايا بالأشخاص التي دارت حولهم الشائعات سوى أنهم ينتمون إلى ديانة واحدة. يسود التعصب، ويطفح مخزون الكراهية، الذي لا علاقة له بجوهر الدين ذاته، وينتهي الأمر إلى وجود طرف معتد وآخر معتدى عليه. تؤجل دولة القانون، ويجري تنظيم جلسات عرفية لتسوية الأزمة، وهو ما يشكل إهدارا لمبادئ المواطنة، التي تتصدر الدستور، وتعلو ألسنة المثقفين والساسة، وتصبح هذه الجلسات بمثابة مخرج لكل الأطراف: طرف معتد يريد أن يفلت من عقاب قانوني يترتب على جرائم ارتكبها، وطرف معتدي عليه يريد أن يلتمس سبل العيش، وجهة حكومية تريد أن تستعيد سريعا الحياة في المكان الذي شهد التوترات الدينية، التي تأخذ شكل جرائم يعاقب عليها القانون. وطالما لا يطبق القانون، يصبح الاعتداء مأمون العواقب، ونهايته معروفة. نظام مبارك كان نموذجا لإدارة الأزمات ذات الطبيعة الدينية على هذا النحو، وهو ما أدى إلى تكاثرها، وتناميها، وتحولها إلى أسلوب معتاد. في حادثة قرية “الكرم” التي استيقظ المجتمع بعد أيام من حدوثها، اشتعلت على الفضاء الالكتروني، وبدأت مؤسسات المجتمع في الاستيقاظ الواحدة تلو الأخري ببيانات استنكار وشجب، وهم لا يدرون أنها ليست الأولى، وسبق وقوع حوادث مشابهة خلال السنوات الماضية، يعرفها المتابعون للشأن الديني، ولم تتوقف، وتحتل محافظة إلمنيا نصيب الأسد فيها. هذه المرة، بعد أيام من إنكار وتهوين السلطات المحلية مما حدث، جاء بيان رئاسة الجمهورية واضحا حاسما، من حيث معاقبة الجناة، وإصلاح المنشآت التي تعرضت للاعتداء، والتأكيد على احترام المرأة المصرية. التوجيه الرئاسي هام في هذا الخصوص، ولكن ما حدث، وسبقه أحداث كثيرة، يلفت الانتباه إلى قضية أساسية، هي دور القيادات المحلية في التصدي للمشكلات بالقانون، والتخلص من ثقافة الانكار، والرغبة في التعتيم على الأخطاء. ففي مجتمع تتكالب عليه مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية سوف تتكرر توترات ذات طبيعة دينية، ولا يوجد ضمان لعدم تكرارها رغم استمرار الحديث عنها بوصفها غريبة على المجتمع، أو تتعارض مع اخلاق وقيم المصريين، وهو ما يتطلب أن تتحمل كل الأطراف مسئوليتها، القيادات المحلية، والمؤسسات الدينية، والإعلام، والتعامل معها ليس بوصفها عارا نسعي للتخلص منه بالانكار والتهوين وإهالة التراب عليه، بل ذنب يحمله المجتمع على كاهله، ينبغي أن يتخلص منه، بالشفافية، وكشف الأخطاء والتجاوزات، ومحاسبة المخطئين، واختيار قيادات تؤمن بالمواطنة، قادرة على التصدي للأزمات، ومواجهة التطرف، وعدم التواطؤ معه، إذا كنا جادين في مكافحة الإرهاب، لأن الخيط الرفيع بينهما باهت، تغذيه روافد في التعليم، والخطاب الديني، وثقافة المجتمع. لمزيد من مقالات سامح فوزي