مسألة محيرة تشبه لغزا من الأساطير الغامضة، كيف لا تجمعنى ذكريات طفولة مع وحيد ابن خالتى «ام محمد»، وحيد عاش طفولته وصباه معى فى قرية كفر مناوهلة، ولا توجد صورة له فى ذهنى ونحن صغار، أكبره بخمس سنوات، وأول مشهد له فى مخيلتى كان مراهقا يقترب من سن الشباب، حين كان يجئ إلى بيتنا فى شبرا زائرا لأيام، ويعزمنى على سينما شبرا بالاس بشارع الترعة البولاقية أو سينما مسرة قبل سوق روض الفرج الشهير الذى انتقل إلى مدينة العبور فى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، ونقطع تذكرتين «ترسو» بخمسة قروش، ثم توطدت علاقتنا وصرنا صديقين على مغامرات الغرب الأمريكى وأسطورة هرقل وسوبرمان ودراكولا مصاص الدماء وغناء فريد الأطرش وَعَبَد الحليم حافظ ورقة مريم فخر الدين ودلع شادية وفتونة فريد شوقي. حاولت مرارا بعد أن وعيت أن أفهم سبب غياب هذه الصورة الذهنية لنا ونحن صغار، ربما لأَنِّى لم أكن أحب ابيها عّم «عبد الجليل»، رجل طويل القامة نحيف، ملامحه عادية جامدة، له أذنان طويلتان مثل «ابو قردان» أو هكذا أطلقت عليه، وكان يعاملنى بعنف ويظهر لى عدم رضاه، وربما بعض الكراهية لأسباب لا أعرفها، قد تكون شقاوتى هى سبب امتعاض عّم عبد الجليل منى، فلم يحدثنى ولا مرة فى حياتى دون تكشيرة رافضة، قد يكون ذلك صحيحا، فذات مرة استأجرت دراجة من عّم شحاته «الكلوباتي» نسبة إلى الكلوبات التى كان يؤجرها فى الأفراح وسرادق العزاء المنصوبة غالبا فى « الجرن الكبير» على الزراعية، وركبت الدراجة وسرحت مع نفسى متجولا فى كل قرى وكفور مركز الباجور، من صباحية ربنا إلى أذان المغرب، قطعت بها ما لا يقل عن أربعين كليومترا، شغفا باكتشاف الأماكن والسكك والدروب، وحين عدت ألقيت بالدراجة أمام باب المحل وأخذت ذيلى فى أسنانى وطيران فى الشارع، وجرى خلفى عّم شحاته، واختفيت فى القش المكوم فوق سطوح دارنا، ووقف عّم شحاته يردح، ولم تكن خالتى مَنْبِية ولا ستى « تفيدة» موجودتين، فصادفه عّم عبد الجليل، الذى استقر فى دار خالى « أحمد» بجوارنا، وطلب منه عشرة قروش تعويضا عن الساعات الزائدة التى احتفظت بها بالدراجة، ورفض عبد الجليل، واشتبكا معا بالكلام كعادة أهل القرية دون أن يمسك أحدهما فى خناق الآخر، وتدخل أولاد الحلال من هنا وهناك، وشحاتة مصرٌ على القروش العشرة وَعَبَد الجليل ينكرها عَلَيْه: هو أنا كنت خلفته ونسيته؟ وكانت خالتى أم محمد مثل زوجها، ترانى ولدا شقيا، ربما وقتها كانت تحذر ابنها وحيد من اللعب معي، حتى لا أفسده. لكن وحيد ابن خالتى كان متمردا بالفطرة، ولم يكن فى حاجة إلى شقاوتي، خرج من المدرسة مبكرا لأنه لا يهوى التعليم ولا شخط المدرسين، ورفض الفلاحة وطين الأرض، ولم يفلح غضب ابيه ولا تهديداته فى ردعه، فهجر القرية وهو فى الثامنة عشرة، وجاء إلى القاهرة، مدينة الفرص والأحلام، فالكفر أضيق من طموحه ووسامته..والسينما منحته خيالا واسعا قرر أن يطارده طول حياته. غابت اخبار وحيد عنى عامين أو ثلاثة حتى فوجئت بسيارة «بيجو 104» واقفة أمام بيتنا ونازل منها شاب أنيق، قميص حرير مفتوح من على الصدر، بنطلون شارلستون، شعر طويل مصفف بعناية وسيجارة مارلبورو فى فمه مثل أبطال الأفلام. كان «وحيد ابن خالتي».. عرفت منه أنه يعمل سائقا خاصا فى الزمالك عند الموسيقى الشهير «أحمد فؤاد حسن» صاحب الفرقة الماسية، وراح يروى لى حكايات عن الأشخاص المهمين الذين يلتقى بهم، وأعمال البيزنس التى تتم أمامه.. كان عصر الانفتاح بدأ والسوق مفتوح على مصراعيه. وبعدها تزوج من موظفة حسابات بنقابة الموسيقيين وسكن فى شقة بإمبابة. يغيب وحيد شهورا وأحيانا سنة، ثم يعود بالأحضان والحكايات كأننا كنا مع بعض بالأمس، المتغير هو نوع ماركة السيارة المستوردة، وصاحب العمل الذى يشتغل لديه، وكان أغلبهم فنانين ورجال أعمال مشهورين من الذين تنشر صورهم فى الجرائد. فى هذه المرة غبت أنا وسافرت إلى الخليج ثلاث سنوات بعد اغتيال الرئيس أنور السادات، وعدت فى منتصف الثمانينيّات، لاجده يعمل عند الراقصة «سحر حمدي»، وكانت سحر هى حديث المدينة، اشتبكت مع ضابط شرطة فى ميدان الجلاء فجرا، بعد أن أنهت « نمرتها» فى الفندق القريب، شتمته شتمها، حاولت أن تضربه، صفعها على وجهها، هددته: وحياة أمك لأنقلك. وبعد ثلاثة أيام بالضبط صدر أمر نقل للضابط إلى أسوان، وكتبت الصحف فى صفحاتها وانتقدت من أسبوعين، وهاج الأستاذ إبراهيم سعدة رئيس تحرير أخبار اليوم وشن حملة شعواء على قرار النقل، ولم يتغير شئ. شغلنى الموضوع إلى حد كبير، واحتل تفكيرى ليلا ونهارا: من أين لراقصة كل هذه القوة؟ وبرقت فى ذهنى فكرة حوار صحفى معها، ربما اعثر على مفتاح السر. ولجأت إلى وحيد.. زجرنى قائلا: يا أستاذ أهم حاجة فى شغلتى هى حفظ الأمانة وأسرار الشغل. شمال يمين لم ينطق بحرف عنها، وقال: خذ رقم تليفونها وكلمها وأنا خارج الموضوع. ونجحت فى الوصول إليها، وقابلتها فى شاليه على حمام سباحة فى فندق شهير بالزمالك.. ودار الحوار هادئا، وسألتها السؤال الساذج: أنت راقصة موهوبة ومعك فرقة ومزيكا خاصة من أشهر الملحنين.. لكن كل هذا ضائع بين المنتشين السكارى فى الكباريهات؟ ردت علىَّ بحدة: لا يا حبيبى أنا « برقص» فى أحسن بيوت مصر، وعددت أمامى بيوت المسئولين الكبار التى دخلتها وأحيت فيها حفلات.. كانت بعض الأسماء مُرعبة! وكتبت الموضوع ولم ينشر أبدا، ولم اعرف مصيره حتى الآن. وكان وحيد كلما التقينا يعايرني: يعنى فلقتنى وفى الآخر لا حس ولاخبر. وغاب فترة ربما أطول من المعتاد، ثم ظهر فى سيارة ألمانية فاخرة ( بى ام دبليو)، وقال: أسكت ..سحر اعتزلت الرقص وتنقبت.. ضحكت وسألته: وأين تعمل الآن؟ قال: فى التجارة مع بهوات.. أولاد باشوات بحق وحقيقي. ووراح يروى عن الدنيا التى فتحت عليه، فصار شريكا فى مكتب استيراد وتصدير ، واشترى السيارة وانتقل للعيش فى عمارة حديثة بالمهندسين تطل على نادى الصيد. وزرته بعد سنوات فى شقته الفاخرة الواسعة..فضحك وقال: معرفة أصحاب النفوذ والاقتراب منهم أهم من التعليم، لو وثقوا فيك يرفعونك لسابع سماء. قلت: كل واحد وحلمه. بعد سنوات رِن تليفونى المحمول، كان وحيد على الطرف الآخر يكاد يبكي.. سألته: ماذا حدث؟ قال: ابن الباشوات لهف الفلوس وهرب للخارج.. لم فوق المائة مليون جنيه من العملاء. سألته فى لهفة: فيه أوراق باسمك؟ قال: لا ..لكن المصيبة أكبر.. بقيت على الحديدة، كيف أعيش وكيف ادفع مصروفات المدارس الأجنبية للولد. ثم عاد وحيد إلى امبابة لكنه فقد كثيرا من بريق النجومية الذى كان يلمع منه.