«الأصل في الفكر اذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم هو أن يكون حوارا بين «لا» و»نعم» وما يتوسطهما من ظلال وأطياف. فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكرا ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكرا. ففي الأول عناد الأطفال. وفي الثاني طاعة العبيد» هكذا نبهنا د زكي نجيب محمود صاحب «تجديد الفكر العربي». الفيلسوف الأديب الذي رصد وتأمل طويلا حياتنا ثم قارن وانتقد كثيرا «نحن» مقابل «هم» في الغرب لم يتردد في القول «هم يصبون الطاقة العقلية على الأشياء ونحن نصب طاقتنا على الأقوال» وأيضا «هم يبدأون بالمشكلة يبحثون لها عن فكرة، نحن نبدأ بالفكرة نبحث لها عن مشكلة» ذاكرا أيضا «نحن كالمبصر الكسيح نرى الطريق ولا نستطيع السير فيه» وناصحا لنا «التعليم فاعلية داخلية تنشط بها طبيعة المتعلم، وليس التعلم أذانا تصغى الى ملقن»!!. .................... ولا شك أن د. زكي نجيب محمود (1905 1993) بتجاربه الثرية في التعامل وأيضا التفاعل مع الغرب علما وعملا وتعلما قدم لنا عصارة فكره وحصاد حياته في كتابات غالبا تصدم السكون العقلي وتثري الخيال النفسي لدينا أو هكذا كان سعيه. كما أنها تعطي فرصة لنا لمواجهة النفس والعقل.. وفرصة أيضا للتمييز والاختيار بين «قشور ولباب». نعم، قد يريد البعض أن يرى زكي نجيب محمود «مبهورا» بالغرب أو «خاضعا» له أو أنه مارس دائما «جلد الذات» الا أن هذا الموقف منه ومما كتبه يماثل تماما «عناد الأطفال» و بالطبع هو لمن قرأ كتاباته لا يريد منك أبدا «طاعة العبيد» أو التسليم بما يكتبه. وقائمة أسماء كتبه تكشف عن اهتمامه وشغفه وأيضا بحثه الدائم ورغبته المستمرة في التعلم ومواكبة العصر وتحدي الذات.. منها «قصة نفس» و»قصة عقل» و»عربي بين ثقافتين» و»ثقافتنا في مواجهة العصر» و»مجتمع جديد أو الكارثة». وكلماته بالتأكيد رغم مرور السنين لها معنى ومغزى وقيمة وأثر .. لمن يريد أن يقرأ ولديه عقل متفتح ونفس راغبة في التلقي والتعلم. ابن دمياط تعلم في إنجلترا وقام بالتدريس فيها وأيضا في مصر والولايات المتحدة والكويت. وكان المستشار الثقافي لمصر بواشنطن في عامي 1954 و1955. حكاية تلاق آخر بين الثقافات (بين العقول والنفوس) وفي زمن آخر نجدها في كتاب «قصة ثقافتين» للدكتور إبراهيم عويس. الكتاب «سيرة ذاتية» لمصري أمريكي أو أمريكي من أصل مصري ويتضمن بين صفحاته حياة حافلة لأكاديمي مرموق وعالم اقتصاد معروف والأهم انسان (وهو الآن في ال84 من عمره) يتذكر ويتأمل كل محطة مر بها وهي كثيرة وعلى امتداد العالم كله وبالطبع إنسان (مهما كبر عمرا ومقاما) لا يتردد للحظة في الوقوف أمام كل انسان آخر ألتقى به (صغيرا كان أو كبيرا) ليضيف الى رصيد حياته. ولد إبراهيم عويس بالإسكندرية عام 1931 وعاش وتعلم بمصر ثم غادرها يوم 20 فبراير 1960 بالباخرة وعبر المتوسط وعبر الأطلسي وصل الى أمريكا. تفاصيل الوطن والسفر والحنين والغربة وأيضا اكتشاف الذات والانغماس في التعلم والتفوق تجدها في هذا الكتاب المكتوب بالانجليزية. لعل تتم ترجمته الى العربية ليعرفه أكثر أهل بلده. عويس كان استاذ الاقتصاد في جامعة جورجتاون العريقة في العاصمة الأمريكية ل42 عاما. ومن طلابه كان الرئيس الأمريكي السابق «ويليام جيفرسون كلينتون» الذي كتب مقدمة هذا الكتاب تحية لأستاذه. يذكر فيها الرئيس كيف أنه حضر محاضرات الدكتور عويس عام 1967 عن الاقتصاد العالمي. وكيف أن أستاذه هذا بجانب تدريسه لتفاصيل اقتصاديات العالم وتأثيرها على المجتمعات وخصوصا في مجال النفط قام بمشاطرة فهمه وإدراكه للعالم العربي وشرح للطالب (كلينتون) الأسباب الرئيسية للنزاع العربي الاسرائيلي. كلينتون يرى أن أستاذه في كتابه هذا مثلما كان في حياته يعد مثالا للمعلم الحكيم وأيضا الكريم والمثابر دائما. وحسب كلمات «كلينتون» انه تجسيد لأفضل القيم في الثقافات التي شكلته وأنه يحث قراء هذا الكتاب على ضم هذه القيم لهم وجعل العالم مكانا أفضل. المعلم الأب صفة يعتز بها د إبراهيم عويس وأنا أعايشه لأكثر من 20 عاما وشاهدت ذلك في واشنطن والقاهرة والدوحة وفي أماكن أخرى ألقى فيها محاضرة أو تبنى فكرة أو ساعد في تحقيق حلم شاب. إنه الأستاذ الذي يحفزك ويشجعك على طرح الأسئلة والبحث عن الاجابات. الأستاذ الذي يعلم مع دروس المعرفة دروس الحياة والتجربة الانسانية بأبعادها التاريخية والنفسية. لا يكتفي بتدريس العلم لك داخل قاعات المحاضرة بل أيضا قد يتابع خطواتك وسيرك في دروب الحياة. يسأل عنك ويتواصل معك ويطمئن عليك. هكذا تتشكل مفاهيم «الأستذة» والأبوة.هكذا كانت كلمات بعض طلابه عندما سألتهم عنه. د ابراهيم عويس صاحب أكثر من ستين اصدارا أكاديميا وهو الذي صك في قاموس الاقتصاد عام 1974 كلا من مصطلحي ال»Petrodollar» (بترودولار) و»Hostage Capital»(رأسمال الرهين).كما أن الرئيس السادات في عام 1977 قام بتعيينه رئيسا للبعثة الاقتصادية المصرية في نيويورك. في تجربة هذا المصري الاسكندراني في أمريكا بدءا من مينيسوتا ووصولا الى واشنطن نقف بمحطات الطلاب المصريين في الستينيات وتبعات النكسة وعقود من الصراع العربي الاسرائيلي وحرب الخليج الأولى وهجمات 11 سبتمبر وحرب العراق والربيع العربي.. وأيضا نجد الاسكندرية وأهلها الكرام وعراقة مصر وحضارة الاسلام ونلتقي بأفراد أسرته الكبيرة وأيضا زوجته «سيلين» وابنته «ياسمين» وابنه «كريم» ومن زاروه في بيته ومنهم الملاكم الأعظم كلاي وملك أسبانيا فيليبي السادس عندما كان وليا للعهد ودرس في جامعة جورج تاون. كما نشهد إقراره «خلال سنوات حياتي تعلمت ألا أفقد الأمل وألا أحرق الجسور ما بين البشر .. أن أحافظ عليها». .................... هل يمكن أن تتلاقى الثقافات وتتفاعل وأن تتواصل ؟ .. أم أن مصيرها التصادم دائما وأبدا.. كما يصرخ البعض في وجوهنا!!