اليوم نحن أمام حدث فارق بكل ما تحمله الكلمة من دلالات ومعان، لكنه للأسف الشديد لم ينل حظه الوافر وحقه اللازم من المتابعة والتحليل خلال الأيام المنصرمة، بسبب انشغالنا بتطورات فاجعة طائرة مصر للطيران التى هوت فى مياه البحر المتوسط، لدى عودتها من العاصمة الفرنسية وعلى متنها 66 شخصا. الحدث هو اللقاء التاريخى فى الفاتيكان بين شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وهو تاريخى لأن الطيب سيكون أول شيخ للأزهر تطأ قدماه أرض الفاتيكان قبلة المسيحيين الكاثوليك الذين يشكلون غالبية معتنقى المسيحية فى العالم، وعندما يصافح الطيب فرنسيس فإن المياه ستعود لمجاريها بين المؤسستين الدينيتين العريقتين، بعد جفوة استمرت خمس سنوات حافظ خلالها الطرفان على شعرة معاوية، حتى لا تنقلب الجفوة إلى قطيعة لا فكاك منها، ويتمزق خط الرجعة واصلاح ذات البين بينهما. والأمانة تقتضى تحية الطيب على مبادرته الشجاعة بزيارته الفاتيكان فى هذا التوقيت الدقيق، وسيذكر بالخير عند التأريخ لها ولما سيتمخض عنها، فهو من جهة يستعيد قدرا معتبرا من زخم القوة الناعمة المفتقدة للأزهر، منذ أمد، وربما نرى عائدها فى قضية مقتل الباحث الايطالى ريجيني، ومن جهة أخرى يخطو خطوة عملية على درب تجديد الخطاب الديني، تلك المهمة الثقيلة الملقاة على عاتق أزهرنا الشريف، وتثور بين الحين والآخر تساؤلات عما أنجزه من خطوات ملموسة فى هذا المضمار الصعب. وجود الطيب فى الفاتيكان سيبعث برسالة لكل ذى بصيرة فى العالم الغربى مؤداها أن الإسلام منفتح على الآخر، ويرحب دائما بالتحاور مع المختلفين معه فى عقر دارهم تأسيسا على قاعدة وجادلهم بالتى هى أحسن، وأنه دين ليس على رأسه بطحة ولا فى موقف ضعف ودفاع عن النفس فى ظل هجمة شرسة يتعرض لها، كلما وقع فى الغرب هجوم إرهابى وحشي، والزعم بأن الإسلام يشجع على العنف والتنكيل بالآخر، واستباحة ماله وعرضه وأرضه.. الخ. وكم سيكون عظيما أن يوضح شيخ الأزهر باستفاضة لبابا الفاتيكان أنه على الغربيين التمييز بين الإسلام بكل ما يحمله من قيم تسامح، ومودة، ورحمة، وإعمار للأرض، وقبول الآخر، وبين أفعال وجرائم بعض المنتسبين إليه الذين يزعمون زورا وبهتانا أنهم المؤمنون بحق بالإسلام، وأن السماء قد أرسلتهم لهداية البشرية، وإرشاد المسلمين الذين ضلوا وانحرفوا عن دينهم الصحيح للطريق القويم، وأن مَن يخرج عن طاعتهم فلا عاصم ولا ذمة له ومصيره الهلاك والقتل. وعلى شيخ الأزهر أن يشدد على أن تنظيم داعش الإرهابى فئة ضالة شاردة خارجة على مقتضيات وقواعد الدين الحنيف، وأن أكبر خطأ يرتكبه الغربيون سيكون النظر لداعش وأخواتها على أنهم يمثلون الإسلام، وأن النظرة الصحيحة لهم يجب أن تكون محصورة فى خطرهم كارهابيين، وأن الدواعش خطر يهدد المسلمين بالأساس قبل أن يكونوا خطرا على الغرب ومصالحه، بدليل أن معظم ضحاياهم من المسلمين، وأن نسبة كبيرة من المقاتلين فى صفوفهم تربوا وعاشوا فى بلدان غربية. وبيان أيضا أن داعش ليست سوى جملة عابرة فى تاريخ البشرية سرعان ما ستنزوى وتضمحل، وسيلحق باسمها السوء والخزى فى كتب التاريخ شأنها شأن كل الجماعات المتطرفة الشاذة التى طفت على سطح الأحداث فى حقب سابقة لأسباب اجتماعية وسياسية معينة، وللبابا فرنسيس موقف ايجابى يستحق الاشارة إليه والثناء عليه عندما أدلى بتصريح قبل أيام أكد فيه أن مشكلة أوروبا ليست مع الإسلام بل مع داعش. وبما أن اللقاء سيذيب إلى حد بعيد الجمود والبرود الذى اعترى علاقة الأزهر والفاتيكان فى الأعوام الماضية، فإن الفائدة المرجوة منه ستكون منقوصة إن لم يتفق الجانبان على الأرضية التى سيتحاوران عليها، حتى ينجحا فى تعميق التفاهم والتعاون المشترك بما يخدم الإنسانية. فعليهما تحديد ما إذا كانت أرضية حوارهما دينية أم حضارية، وظنى أنه لابد أن تكون حضارية، فهما لا يخوضان سباقا غرضه إثبات مَن الذى يقف على طرف الحق، ومَن الذى يقف على حافة الضلال والانحراف المبين، ومَن صاحب اليد العليا على الصعيد الديني، والبديل الأوفق سيكون العودة إلى أن الأصل فى العلاقة بين الحضارات هو الحوار وليس الصراع، وأنه يتعين البحث عن الجوانب المشتركة وليس اللعب طوال الوقت على وتر الاختلافات والتباينات، وأن هناك الكثير من القضايا التى تهم البشرية ومستقبلها كالعنف، والإرهاب، وتحقيق السلام فى فلسطين وخارجها، والديمقراطية والتبادل العلمي، وتجريم توظيف الدين لأغراض سياسية، ومن ثم فإن المجال واسع للمضى قدما كيد واحدة بحكم أن الأخطار الناجمة عنها ستطال الكل دون استثناء. الأزهر والفاتيكان يجب أن يفطنا كذلك لواقع وحقيقة أن الحوار الحضارى يخلو من مبدأ الاستعلاء والاعتقاد بأن هناك حضارة أرقى واعلى من أختها، فالندية هى الخط المستقيم الواجب السير عليه، إن صدقت وخلصت النيات للخروج من دائرة الشك والظن والتعالي. إن ما يبعث على الأمل فى أن زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان ستؤتى ثمارها الطيبة يرتبط بطبيعة طرفى الحوار، أى الطيب وفرنسيس، فالأول هادئ الطبع وتصرفاته ليست انفعالية، ولا يستنكف من الحوار، ويتسم بالنفس الطويل، والوضوح فى أن التطاول على الإسلام خط أحمر، اما فرنسيس فهو بدوره مقبل ومنفتح على الحوار وإذابة الجليد المتراكم مع الطوائف المسيحية، مثل الارثوذكس، والبروتستانت، ومع أصحاب الديانات السماوية، ولنتابع معا ما سنجنيه من تحاور القطبين الكبيرين. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي