هل سمعتم عن القطاع غير الرسمي؟ لأول وهلة يمكن أن يتصور البعض أننا نتحدث عن عالم الجريمة المنظمة والأنشطة غير المشروعة. إلا أن الحديث عن القطاع غير الرسمي ينصب عادة وبشكل أساسي علي كل المنشآت التي تمارس أنشطة مشروعة إلا أنها غير مرخصة وغير مسجلة وفقا لأي شكل من الأشكال التي يحددها القانون. وجود مشروعات تعمل خارج إطار القوانين الرسمية يؤدي إلي فقدان الدولة لموارد ضريبية هامة كان يفترض أن تؤول للخزانة العامة. بعض الاقتصاديين يرون أن وجود هذه المشروعات يخل بقواعد المنافسة في السوق، حيث تتمكن المشروعات غير الرسمية من تخفيض تكلفة إنتاجها وأسعار منتجاتها مقارنة بالمشروعات الرسمية المحملة بأعباء الضرائب والتأمينات والالتزام بمواصفات الجودة. وعلي صعيد آخر يري البعض أن وجود حجم ضخم من الأراضي والممتلكات العقارية غير المسجلة، يعني عدم إمكانية استخدامها كضمان للحصول علي قروض من البنوك لتوفير التمويل اللازم للمشروعات، وهو ما يؤدي إلي تفويت فرصة متاحة لرفع معدلات الاستثمار والنمو الاقتصادي. باختصار، يري كل هؤلاء أن إخضاع القطاع غير الرسمي للقانون سيكفل زيادة الموارد الضريبية للدولة وتوفير المنافسة العادلة في السوق، وزيادة حجم التمويل المتاح للاستثمار ورفع معدلات النمو الاقتصادي. وزارة المالية تسعي منذ سنوات إلي إخضاع القطاع غير الرسمي للضرائب. أنشأت وحدة معنية بتحقيق هذا الهدف أطلقت عليها اسم وحدة العدالة الاقتصادية. مشروع قانون الضريبة علي القيمة المضافة المعروض علي البرلمان يعلن صراحة أنه يستهدف إجبار المشروعات الصغيرة غير المسجلة رسميا علي دفع الضرائب. فكل مشروع يتجاوز رقم مبيعاته السنوية 500 ألف جنيه إما أن يتعامل بالفواتير ويصبح مسجلا رسميا لدي مصلحة الضرائب، وإما أن تتوقف الشركات الكبيرة عن التعامل معه. سعي الحكومة لإدماج القطاع غير الرسمي كوسيلة لزيادة الموارد الضريبية وتخفيض عجز الموازنة العامة أمر لا غبار عليه بكل تأكيد. فكلنا يتعجب كيف أن حصيلة الضريبة علي المرتبات والتي يدفعها الموظفون تزيد علي ضعف الضرائب المحصلة من أصحاب المنشآت التجارية والصناعية. إلا أنه يجب تذكر أن الاقتصاد غير الرسمي لا يتعلق فقط بالمنشآت غير المسجلة والتي لا تدفع الضرائب، بل يتعلق أيضا بالبشر الذين يعملون دون عقود قانونية ودون تأمينات اجتماعية، ودون أن تتوفر لهم ظروف العمل التي توافقت البشرية حتي الآن علي اعتبارها شروطا ضرورية للعمل اللائق، علي النحو الذي تنص عليه مواثيق منظمة العمل الدولية. شروط العمل اللائق التي توافق عليها العالم تنصرف بوجه عام إلي ما يتمتع به العامل من حقوق من حيث الحصول علي أجر نقدي يكفل له ولأسرته الحياة الكريمة والتمتع بأجازات مدفوعة الأجر، ووجود حد أقصي لساعات العمل تتم في مواعيد ملائمة وتتوفر لها شروط السلامة والصحة المهنية، ومدي توفر الحماية القانونية للعامل من خلال عقد عمل يتسم بالاستقرار، وحماية اجتماعية من خلال نظام للتأمينات الاجتماعية والمعاشات والتأمين الصحي، وأخيرا حق العامل في التعبير عن نفسه والدفاع عن مصالحه من خلال التنظيمات النقابية. شروط العمل اللائق لا تتوفر بكل تأكيد في العمل غير الرسمي. إلا أن ارتفاع معدلات البطالة واليأس من العثور علي فرص أفضل تدفع بالشباب إلي قبول هذا العمل. بيانات المسح التتبعي لسوق العمل تقول إن 58% من المشتغلين في مصر يعملون بدون عقود رسمية ولا تأمينات اجتماعية. طبعا ملايين المصريين الذين يعملون دون عقود قانونية ولا تأمينات اجتماعية لا يدفعون أي ضرائب، وهذا بالتأكيد أمر يهم الحكومة التي تسعي لزيادة الحصيلة. ولكن الأمر الذي لا يقل أهمية هو أنه أيا ما كان مستوي الأجر الذي يحصل عليه العامل غير الرسمي فإنه يكون مهددا بالطرد من عمله في أي لحظة. كما أن المأساة الحقيقية هي أن هذا العامل، حتي ولو حالفه الحظ في الحصول علي دخل مجز، سيجد نفسه حين يصل إلي سن التقاعد بدون أي معاش علي الإطلاق. إلا أن الأمر الذي ربما لم يخطر علي بال الحكومة هو أن العمل بدون عقود وتأمينات اجتماعية يؤدي بذاته إلي حرمان ملايين المواطنين من حقهم في بعض الخدمات العامة الأساسية التي تسعي الدولة لتوفيرها للمواطنين. فعلي سبيل المثال ماذا يفعل شاب يعمل بدون عقد قانوني أو عامل زراعي لا يملك حيازة إذا أراد التقدم للحصول علي إحدي وحدات الإسكان الاجتماعي؟ كيف يثبت دخله؟ كيف يأتي بضمان جهة عمله؟ و كيف يمكن لهؤلاء المواطنين أن يحصلوا علي خدمات التأمين الصحي الشامل؟ صحيح أن مشروع القانون الذي أعدته الحكومة يؤكد معاقبة صاحب العمل الذي لم يقم بالاشتراك في التأمين الصحي عن أي من العاملين التابعين له بعقوبات شديدة... إلا أن السؤال هو كيف تثبت أصلا تبعية هؤلاء العاملين لصاحب العمل ومسئوليته عن اشتراكهم في التأمين الصحي؟ إدماج الاقتصاد غير الرسمي يجب ألا يعني فقط إخضاع المنشآت غير المسجلة للضرائب، ولكن أيضا وهو الأهم تعديل التشريعات وتفعيل دور مكاتب العمل والتأمينات لتوفير الحماية القانونية للعاملين ومحاصرة عمليات التهرب من التأمين عليهم أو التأمين بالحد الأدني للاشتراك ... هذا هو السبيل كي تزيد الحصيلة الضريبية وتزداد اشتراكات التأمينات، ويتمكن الشباب من حجز وحدات في مشروع الإسكان الاجتماعي. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى