لا أخفى حقيقة أنى انزعجت كثيرا عندما نشرت الصحف أول خبر يحمل فى مضمونه تنازل مصر عن جزيرتى تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية. فحتى لحظة الإعلان هذه، لم أكن أعلم كمواطنة مصرية أن هذه الجزر لم تكن ملكا لمصر قبل عام 1950. لم أدرس ذلك فى كتب التاريخ أو فى خرائط الجغرافيا. كما أنه قد مر على مصر منذ عام 1950 ثمانية حكام هم الملك فاروق ثم محمد نجيب فعبد الناصر فالسادات تبعه حسنى مبارك فمحمد مرسى ثم عدلى منصور ثم عبد الفتاح السيسي، لم يعلن أى منهم أن المملكة العربية السعودية هى المالكة للجزيرتين. فى الوقت نفسه أشك أن جماهير الشعب فى المملكة العربية السعودية درس تاريخ الجزيرتين فى مدارسه أوعلم أن مليكه قد تنازل عن إدارتهما لمصر فى ذلك العام المذكور. لم أستطع ان استمر طويلا فى الهدوء والروية، فمنذ الإعلان عن هذا الاتفاق أحاطتنا جميعا بحالة من الآراء المتناقضة الصادرة من شخصيات تنتمى للصفوة الاجتماعية ذات السمعة الثقافية الطيبة التى تعتبر من المرجعيات فى صفوفنا. لكل منها رأيها وتفسيرها وتحليلها ، وأسلوب هجومها الشخصى والعام، الذى يستدرج كلا منا إلى اتجاه معاكس للذى تم استدراجنا إليه فى الساعات السابقة.فلسنا جميعا مؤرخين ولا جغرافيين ولا من المقربين من السلطة المصرية منذ أن تبلورت البدايات لمصر الحديثة، لكى نستند على اجتهاداتنا الشخصية. لذلك أحسست أننا نعيش فى متاهة كالتى عشتها مع الكثيرين والكثيرين من المواطنين المصريين فى حالات سابقة ومشابهة للحالة التى نحن فيها الآن. الفارق بين الحالة الحالية والحالات السابقة هو أن تلك الحالات العديدة السابقة التى مرت بنا قديما حدثت فى عوالم مغلقة على نفسها. لم تكن مجتمعاتنا قد تعرضت للتغييرات والديناميكيات التى تتعرض لها مجتمعاتنا الحالية. حينذاك كان الحكام يستطيعون التعتيم وإخفاء الحقائق، أما اليوم فقد اختلفت الأوضاع فى كل مكان. وبات من الخطأ ألا يعترف الآن الحكام بالتغير الهائل الذى حدث فى المجتمعات نتيجة للتقدم التقنى والمعلوماتى والاتصالاتي. فلم يعد يخفى على أى إنسان أى معلومة يسعى للبحث عنها أو رأى يتأكد منه. فالحقائق التى كان يخفيها الأقدمون باتت تكشف الآن وبأسرع مما يتصور الحكام فى أى مكان. ولم يعد العلم بالحقيقة حقا للمواطنين فحسب بل بات واجبا على الحكام إعلان هذه الحقيقة وإعلام المواطنين بها بكل التزام بالشفافية الكاملة.هنا لا أستطيع إلقاء اللوم على الحكومة الحالية أو على الدولة الحالية إلا لأنهما لم يعترفا بضرورة تغيير منهاج الحكم والتعامل مع المواطنين فى البلاد بحيث تتحول العلاقة بين المسئولين والمواطنين ليس كما كانت فى القديم المستمر بين حكام ومحكومين لتصبح الآن علاقة بين قيادة منتخبة ومواطنين يشاركون فى صياغة مستقبل بلادهم. لذا على القيادة المنتخبة أن تتعود على الإعلان عن الحقيقة وأن يكون هذا الإعلان أسلوبا دائما للتعامل ومنهاجا سياسيا متبعا من كل سلطة تنتخب مستقبلا ولاحقا. أتذكر إحدى تلك الحالات الصادمة التى تعود حكامنا على اتباعها كأسلوب سياسى للتعامل مع المواطنين، تلك التى صدمت المصريين قبل حرب الخامس من يونيو 1967 عندما اعلن الرئيس جمال عبد الناصر اغلاق مضيق تيران أمام الملاحة التجارية الإسرائيلية وطلب سحب القوات الدولية التى تفصل بين الجانبين المصرى والاسرائيلي. حتى ذلك التاريخ لم يكن المصريون يعلمون أن إسرائيل خرجت من حرب السويس «العدوان الثلاثي» بمكاسب مهمة مثل حرية الملاحة فى خليج العقبة ومن ثم فى البحر الأحمر بعد المرور على الجزيرتين تيران وصنافير. والكارثة اننا كنا بدأنا نحتفل بالجلاء عن بورسعيد عام 1956 «ولا نزال» كانتصار تام وخالص حققه الشعب المصرى بإرادته وبمقاومته وأسقط فيه إمبراطورية «لم تكن الشمس تغيب عنها». وأكثر من ذلك أنه بات نموذجا للشعوب الصغيرة فى نضالها للوصول إلى أهدافها السياسية. حتى صدور قرار الرئيس عبد الناصر عام 1967، لم يكن الشعب المصرى يعلم تلك الحقيقة التى عاشت على أرضه منذ عام 1956. كانت هذه الحالة من التكتم على الحقيقة استمرارا لسابقاتها ثم أساسا للاحقات بها. وكانت إحدى هذه الحالات اللاحقة عندما اجتمع حسن التهامى مستشار الرئيس السادات بموشيه ديان فى المغرب بعلم من مليكها وملوك ورؤساء عرب آخرين للاتفاق على بنود اتفاقية كامب ديفيد «المتفق على إجرائها مع بعض القادة العرب وإسرائيل والولايات المتحدة». وهى الاتفاقية التى وقف الرئيس المصرى حينذاك يعلن أولى خطواتها كمفاجأة للشعب المصرى ووزارته ولكل العالم.واستمرت حالة التعتيم على الحقائق حتى تلك المرتبطة باتفاقية كامب ديفيد نفسها عندما تم إخفاء حقيقة أن الاتفاقية أسقطت أهم المطلبين الأساسيين للشعب الفلسطينى وهما عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وكذلك عودة الدولة الاسرائيلية إلى ما قبل حدود 1948. لم يرد المطلبان فى الاتفاقية على الاطلاق. وحتى فى تلك الحالات التى لا تستحق الاخفاء أو التعتيم لعدم أهميتها الكبيرة التاريخية أو السياسية يستمر الحكام فى إتباع السياسات نفسها التى تحمل معنى واحدا وهو الاستهتار بالشعب وعدم احترام عقله وإرادته. لقد كان من الغريب على جيلين كاملين من الشباب المصرى تعلما فى المدارس الابتدائية والاعدادية والثانوية وأكملا المرحلة الجامعية وربما حصلا على درجتى الماجستير والدكتوراه أن يكتشفا فجأة وبلا أى مقدمات أن أول رئيس لجمهورية مصر كان الرئيس محمد نجيب ولم يكن الرئيس جمال عبد الناصر. حقيقة تاريخية بسيطة لن تزيد من قيمة الأول كما أنها لن تقلل من قيمة الثانى لكن تم التعتيم عليها بحذفها من كتب التاريخ الرسمية وكأنها من المعلومات الحربية الشديدة الحساسية.وعندما علمت هذه الأجيال تلك الحقيقة لم تصدقها فى البداية ولما تيقنت منها اهتزت مصداقية الدولة أمامها ولم تعد تأخذ كل ما يصدر عن هذه الدولة، بكل مؤسساتها، على محمل الجد والمصداقية. واستمر الشكوالريبة يحكمان علاقة الدولة بالمواطنين وخاصة بالشباب. فالخطأ هنا ليس خطأ الشعب المصرى وصفوته الفكرية والسياسية ولا فى شبابه وإنما يكمن الخطأ فى تمسك الدولة بهذا المنهاج من العمل السياسى وفى إدارة شئون البلاد. وهو منهاج يعبر عن عدم ثقة االنظامب فى عقل االمحكومينب ولا فى عقل الأمة ولا فى ضميرها وبالتالى يخفى عنها الحقيقة ويتستر عليها. ويتعامل مع الحقائق على أنها شأن خاص بالحكام فى حين أن الحقيقة الوطنية هى شأن عام يخص كل المواطنين. وعندما يأتى الوقت لأن تظهر الحقائق كما هى بلا تعتيم أو تزييف، يحدث هذا الارتباك الحادث الآن فى صفوف وطننا. قمنا بثورتين ورفعنا شعاراتنا. نريد العيش فى بلدنا كمواطنين وليس كمحكومين. نسعى للمشاركة فى بناء وطننا ومن أجل تحقيق هذا الهدف. لذا لابد أن نعرف الحقائق فى وقتها. ومادام يطلب منا وطننا التضحيات من أجله فلابد ان نعرف، لماذا نضحي؟. لمزيد من مقالات أمينة شفيق