منذ اندلاع الثورة التونسية فى 17 ديسمبر 2010، انتشرت حمى المظاهرات، ليس فى المنطقة العربية فقط، بل فى العالم كله، خلال عام 2011 تحديدا. وإذا كانت بعض الثورات العربية قد نجحت فى الإطاحة بأنظمة وفشلت أخرى فى ذلك، فإن غالبية المظاهرات فى الغرب كانت من أجل تغيير السياسات والفساد، وحملت شعارات "ربيع الحرية" التى استلهمتها من فكرة "الربيع العربي"، وربما كانت أبرزها المظاهرات الإسبانية "15- إم" ضد سياسات التقشف، وكذلك احتجاجات حركة "احتلوا" التى انتقلت من الولاياتالمتحدة إلى جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن روابط ما تجمع بين هذه الحركات، فإنها فى النهاية تعرضت لمصير متشابه تمثل فى خفوت وهجها أو الفشل فى تحقيق أهدافها. فعلى سبيل المثال، تحل فى 17 سبتمبر القادم الذكرى الخامسة لتدشين حركة "احتلوا وول ستريت"، إلا أن احتجاجاتها ومطالبها، بل وأعضاءها الذين تحمسوا للفكرة وللمطالب العادلة لها، تلاشوا ولم يبق منهم سوى العشرات الذى يظهرون فى سبتمبر من كل عام لتذكر ما لم يعد موجودا على أرض الواقع، فلا الأحلام تحققت، ولا الزخم نفسه ما زال موجودا. ولعل هذا الفشل كان الأساس الذى دفع مايكا وايت أحد المؤسسيين لحركة "احتلوا وول ستريت"، إلى جانب كال لاسين، لتغير نظرته تجاه فكرة الاحتجاج من الأساس، وتقديم نصائح جديدة لفكرة الثورة وللنشطاء. وايت يرى أن السنوات الأخيرة شهدت أكبر مظاهرات فى تاريخ البشرية، لكن هذه التجمعات الضخمة لم تغير المجتمع، ويعتبر أن النشاط السياسى أو الاجتماعى الآن فى مفترق طرق : فإما الابتكار فى طرق الاحتجاج أو عدم الجدوى. يعمل مايكا فى مؤسسة "أد بوسترز"، ومقرها كندا، والتى تصف نفسها بأنها شبكة إعلامية عالمية تضم فنانين ونشطاء وكتاب وساخرين وطلبة ومعلمين وأصحاب شركات يريدون تطوير حركة النشاط الاجتماعى الجديدة التى تتناسب مع عصر المعلومات. وفى منتصف 2011، دعت المؤسسة إلى احتلال سلمى لمركز المال والأعمال فى الولاياتالمتحدة "وول ستريت" للاحتجاج على سيطرة الشركات على الديمقراطية وتحكم رأس المال فى السياسات الأمريكية، والتفاوت المتزايد فى الثروة، والتداعيات القانونية وراء الأزمة المالية العالمية الأخيرة. حركة "احتلوا" تم استلهامها من ثورة يناير 2011 فى ميدان التحرير، ومن المظاهرات الإسبانية المناهضة للتقشف فى ميدان "باب الشمس"، أو "بورتا ديل سول"، حيث حاولت الحركة محاكاة ما حدث فى مصر، ورفع المحتجون شعار "العدالة الاجتماعية". وقال وايت إنه اقترح الاعتصام فى مانهاتن عبر إرسال الدعوة إلى قائمته على البريد الإليكتروني، وانتشرت الحركة فى العالم بشكل عفوي، بل وتم تشكيل مفوضية رئاسية بناء على طلب هذه المؤسسة البسيطة من أجل دراسة كيفية فصل المال عن السياسة، وحملت الحركة الاحتجاجية شعار "نحن 99%" احتجاجا على امتلاك "1%" من الأغنياء للثروة فى العالم وغياب العدالة الاجتماعية فى توزيع الدخل والثروة. وعلى الرغم من أن المؤسسة هى صاحبة فكرة "احتلوا"، فإنها لم تستطع التحكم فى مجريات الأمور فيما بعد. وبعد النجاح المذهل الذى حققته الحركة فى البداية، كان السؤال : ماذا بعد؟ وما هى مواصفات الحركات الاجتماعية الفعالة؟ وكيف يتأتى التغير الاجتماعى فى عصر ما بعد "احتلوا وول ستريت". فى كتابه الجديد، الذى يحمل عنوان "نهاية الاحتجاج : القواعد الجديدة للثورة"، يتوقع وايت مستقبل النشطاء، اعتمادا على تجربته الفريدة فى حركة "احتلوا"، التى انتشرت كالنار فى الهشيم فى 82 دولة فى 11 أكتوبر 2011، فيوضح الكاتب نظرية موحدة للثورة وثمانية مباديء للتجديد التكتيكى لتحفيز الجيل القادم على الحركات الاجتماعية. وعلى الرغم من التحديات الدولية، مثل التغير المناخى الكارثي، والانهيار الاقتصادي، وتراجع الديمقراطية، وجد وايت سببا للتفاؤل، وهو أن نهاية الاحتجاج تدشن عصرا جديدا من التغير الاجتماعي. ويرى مايكا أن الحركة فشلت فى تحقيق إمكانياتها الثورية بسبب التكتيكات الفاشلة التى يستخدمها الداعون للمظاهرات، واعتبر أن بعض الناس يحاولون التمسك ب"النوستالجيا" أو الحنين لوهج حركة "احتلوا"، كما أنهم يرفضون الاعتراف بأنها لم تنجح. وبعد فترة، ظهرت بعض الاتجاهات التى تنادى بأن الحراك الاجتماعى غير فعال، مطالبة بوقف المظاهرات لأنه فى ظل التشوش الثقافى فإنه لا يمكن الدفع باتجاه التغيير الحقيقي، بينما رأى آخرون أن الحراك طريقة سهلة بالنسبة لمواطنى الطبقة العليا والدنيا للشعور بالقوة عبر الاشتراك فى الحراك الذى لا يحمل تكلفة شخصية مثل حملة "باى ناثينج داي"، والتى تدعو إلى اختيار يوم لعدم الشراء. ووفقا لنظرية وايت، فإن الثورة مرتبطة بالحضارة الإنسانية وبالتغير الاجتماعى الذى ينظم نفسه وينظم الطريقة التى يتحرك بها، والجزء الأهم أن النشاط السياسى والاجتماعى يحتاج أن يكون أكثر عمقا فى الطريقة التى يفكر فيها فيما يجب فعله. ومن وجهة نظر الكاتب، فإن هناك أربع رؤى أو نماذج متنافسة لخلق التغيير الاجتماعى : الأولى هى "التطوعية"، والتى تعنى الإيمان بأن أفعال البشر هى التى تؤدى إلى التغيير. والثانية هى "البنيوية"، حيث أن القوى الاقتصادية التى تقع خارج نطاق التحكم البشري، مثل أسعار الغذاء، ربما تؤدى إلى الثورة. والثالثة هى أن الثورة عملية داخلية داخل الأفراد فقط، أما الرابعة فهى أن الثورة ظاهرة خارقة للعادة. ويرى وايت أن "الزمن يتغير، وكذلك النظرية الثورية المناسبة للوقت الحالي"، وأن "الطريقة التى تحتج بها بفاعلية أمس ربما لا تكون مناسبة خلال أسبوع لاحق". وربما نبعت نظرية وايت من تراجع زخم الحركة الاحتجاجية الأكبر منذ عام 1968، بالإضافة إلى المضايقات الأمنية التى تعرضت لها الحركة، خصوصا مع ظهور وثائق تؤكد محاولات مكتب التحقيقات الفيدرالى "إف بى آي" التنصت واختراق الحركة، بالإضافة إلى الاشتباكات مع الشرطة واستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين والتحرش الجنسى والاغتصاب الذى تعرضت له بعض النساء المشاركات. ولم يكن هذا الكتاب هو الأول الذى يدعو لنهاية الاحتجاج، بل صدر كتاب آخر يحمل عنوان "نهاية الاحتجاج : كيف تعلمت رأسمالية السوق الحرة التحكم فى المعارضة" للبروفيسور ألاسدير روبيرتس الأستاذ بجامعة ميزورى الأمريكية فى 2013، والذى يرى أن السبب فى تراجع المظاهرات يرجع إلى مكائد الليبراليين الجدد وأتباعهم فى مؤسسات الشرطة والجهات الحكومية المختلفة، بالإضافة إلى أن الحكومات خصوصا فى الولاياتالمتحدة وبريطانيا اعتادت على إطلاق العنان لقوى السوق بينما تجنبت الاحتجاج على فشل سياسات السوق. روبيرتس يرجع فشل حركة "احتلوا" إلى أن الحكومتين الأمريكية والبريطانية تحديدا انشغلتا بمهمة التحكم فى المعارضين لسياسات السوق الحرة، كما أن المدافعين عن الرأسمالية وجدوا طرقا مبتكرة للتحكم فى غضب الناس. .. فهل انتهت فكرة "المظاهرات الاحتجاجية"، كوسيلة للتغيير؟ أم لا تزال هناك نظريات أخرى، وجولات مستقبلية؟ّ!.