لا نحتاج إلى تحليلات اقتصادية معمقة لإثبات أن زيادة الواردات، خاصة في السلع الترفيهية أو الكمالية، على حساب الصادرات يشكل مصدرا مستمرا لزيادة الطلب على الدولار، مما يؤدي إلى ارتفاع سعره خاصة مع انكماش العرض. المجتمع المصري، شأن بقية المجتمعات العربية، يعاني من تفشى ثقافة الاستهلاك. العالم العربي يستهلك ربع الإنتاج العالمي، في حين أن إنتاجه أقل من ذلك بكثير. وإذا نظرنا إلى السلوك الاستهلاكي للمصريين سوف نجد انفاقا متزايدا على الاستهلاك، وتراجع الادخار، واكتساب الممارسات الاستهلاكية دلالات اجتماعية تجعل منها عنوانا للوجاهة، والطبقية، والهوية الثقافية في مجتمع يعاني من اختلالات حادة، أبرزها الانقسام الطبقي الحاد بين من يملكون ومن لا يملكون. تشير الإحصاءات إلى أن المصريين ينفقون أكثر من أربعة مليارات دولار على استيراد "ورق العنب"، ولحم الطاووس، وسمك الكافيار والجمبري والجامبو والاستاكوزا، كما يتم إنفاق الملايين على استيراد "أيس كريم" من الأنواع الفاخرة. ويصل إنفاق المصريين على السلع الترفيهية المعمرة وغير المعمرة إلى ما يقرب من ستة مليارات دولار، ونحو أربعة مليارات دولار على استيراد أجهزة الهاتف المحمول. البذخ في الاستهلاك يؤدي إلى تداعيات اجتماعية ونفسية في المجتمع تتمثل في ارتفاع منسوب الحقد الاجتماعي، وتمزق الروابط الاجتماعية، والشعور المستمر بأن التملك هو أساس الحراك الاجتماعي في حين أن وسائل الصعود على السلم الاجتماعي المتحضرة في تراجع مذهل مثل التعليم. وتعود ثقافة الاستهلاك في مجتمع أكثر من نصف سكانه في زمرة الفقراء إلى عوامل عديدة بعضها يعود إلى الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي، وما تلاه من سياسات اقتصادية لم تول أهمية للتنمية بمعناها الشامل، رافق ذلك هجرة العمالة المصرية إلى دول الخليج وبعض الدول الأوروبية، عادت إلى مجتمعها بثقافة محافظة، تغلفها نزعة استهلاكية شرسة، ورغبة في المباهة الاجتماعية، أدت إلى اختلال في توازن الريف المصري، وهي قضية مهمة لم يدرسها الباحثون الاجتماعيون بشكل كاف. ولا يمكن فصل قضية "الاتجار في البشر" عن تفشي الثقافة الاستهلاكية، حيث تحول البشر إلى موضوع للاستهلاك، سواء من خلال الاستغلال الاقتصادي أو انتهاك حرمة الجسد أو الدعارة أو الهجرة غير الشرعية، وانتشار ثقافة العنف اللفظي والبدني، والفن الهابط. ويكفي أن نطالع كل يوم الجرائم التي تنشرها الصحف، وتشكل في ذاتها نوعية جديدة من الانحراف لم تكن على هذه الدرجة من الاتساع في المجتمع. ولعل أهم ما يدعم ثقافة الاستهلاك ظهور خطابات دينية تقوم على محاباة الأغنياء، وتغض الطرف عن ممارسات بعضهم الاستهلاكية، ومحاولة إسباغ بردة دينية عليها، بحيث صار هناك "دعاة" و"وعاظ" للطبقة الاستهلاكية المترفة في المجتمع، ينتجون الخطابات الدينية التي تناسبها. أدى ذلك إلى تعميق النظرة المادية، واضعف الروابط الاجتماعية والإنسانية، وهمش القيم الأخلاقية. لقد تحول الاستهلاك إلى عنوان السعادة، والاحتفال بكل المناسبات، بما في ذلك الأعياد الدينية، التي لم يعد هناك تركيز على ما تحمله من مضامين روحية وإنسانية بقدر اعتبارها مناسبة للاستهلاك. التصدي للنزعة الاستهلاكية لن يكون فقط بسياسات اقتصادية تحد من الاستيراد، ولكن أيضا من خلال تكوين جيل جديد يؤمن بقيم إنسانية رفيعة تركز على ما وراء المادة، أو الجانب اللا مادي في حياة الفرد. أحد عوامل ظهور التعبيرات الروحانية الجديدة في المجتمعات الرأسمالية هو مواجهة التفسخ الاجتماعي، والاستهلاك الشره، وارتباط الإنسان بالماديات على حساب الجوهر الإنساني الروحي. هذه إحدى القضايا التي يجب أن تهتم بها مؤسسات التنشئة باختلاف صورها. التعليم من خلال التركيز على التربية المدنية، وتشجيع الطلاب والطالبات على تكوين نظرة إنسانية للحياة، والمشاركة في مبادرات اجتماعية تطوعية، لا تجعل كل اهتمامهم مرتبطا بالمادة. الإعلام من خلال عدم الاستسلام للإعلان البذخي، الذي يوظف خيال المشاهد، وتطلعاته الزائفة على نطاق واسع، لا يخلو من استخدام ممنهج للمرأة التي تحولت إلى جسد أو عارضة للوجاهة. ويرجي من الإعلام أن يطرح هذه النوعية من القضايا سواء ما يتعلق بالآثار السلبية لتفشي النزعة الاستهلاكية أو التحولات الاجتماعية المرتبكة في المجتمع حتى يتشكل لدي الجمهور الوعي لتقييم سلوكهم الاجتماعي. أما الخطاب الديني فهو أحد الوسائل غير المباشرة في تدعيم ثقافة الاستهلاك من خلال تجنب نقد الممارسات الاجتماعية الاستفزازية أو محاباة الطبقات المترفة أو عدم التركيز على الجوانب الإنسانية أو الأخلاقية والإفراط فقط في الحديث عن الجوانب التعبدية أو الشعائر. المتأمل لحال المجتمع المصري يصل إلى نتيجة هي انخفاض معدلات الأخلاق العامة، وتفشي المادية، وعدم الاعتداد بالاعتبارات الإنسانية، وزيادة مظاهر القبح واللا مبالاة وضعف القدرات الإنتاجية، وهي حالة مركبة، لا يمكن أن يخرج من براثنها إلا من خلال اكتشاف منابع جديدة للروحانية الجديدة، مثل الاهتمام بالثقافة العلمية، والمبادرات الاجتماعية والإنسانية، وإنتاج خطابات دينية تشتبك مع المشكلات الاجتماعية، وتقدم مقاربات جديدة تحرر الفرد من الفقر والعوز، وتمكنه من تطوير نوعية الحياة، والتكوين النفسي المتوازن له. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى