ما ان يرحل زعيم ممن ملأوا الدنيا وشغلوا الناس او يسدل الستار على حقبة سياسية حرجة حتى تتدفق المذكرات وكأنها كانت حبيسة قمقم، وسرعان ما يختلط حابل الصدق بنابل التلفيق، لأن هناك من يعيدون انتاج الماضى وفقا لرغائبهم ومنهم من يخترع طفولة وصبا يليقان بما انتهى اليه من مكانة . حدث ذلك مرارا فى العالم كله بحيث قال مؤرخ المانى ان هناك اكثر من خمسين بسمارك وعشرين بونابرت وستالين، لكن مقابل هتلر واحد لأن الكتابة عن الفوهرر من اية زاوية غير تلك التى شيطنته محظورة وتعرض صاحبها للمساءلة . وكتابة المذكرات او السيرة الذاتية فى الثقافة العربية عانت من الترهيب اذا حاولت ان تكون اعترافات على طريقة القديس اوغسطين او جان جاك روسو، لأن الاعراف السائدة والتى لها سطوة تتجاوز القوانين احيانا لا تتيح للفرد ان يقول ما لديه مما يضطره الى الحذف فهو يكتب بقلم تتدلى منه ممحاة، وانتقلت هذه العدوى حتى الى روائيين منهم من يضطر الى تصدير روايته بملاحظة استدراكية هى ان اى تشابه بين شخوص الرواية والواقع هو مجرد مصادفة! لكن حتى من كتبوا اعترافات اعتبرها بعض المؤرخين صادقة مثل روسو لم يسلموا من النقد من مداخل سايكولوجية قيل عنه بالتحديد انه سلّط الاضاءة على جوانب حسية من حياته ومنها ما هو جنسى كى يحجبها عن زوايا اخرى، وكان الصديق رجاء النقاش من اوائل من كتبوا عن هذه الظاهرة، خصوصا بعد نشره مراسلات كانت طى الكتمان بين الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان والناقد انور المعداوي، واذكر انه استشهد بمقولات لمستشرقين منها ما يرى اصحابه ان شحة السيرة الذاتية والاعترافات فى الثقافة العربية سببها الخشية من التأويل وبالتالى العقاب ببعديه السياسى والاجتماعي، فالسيرة تشترط اضافة الى التسامح الاجتماعى حدا ادنى من الديمقراطية، يعترف بحق الفرد فى الاختلاف وهذا امر مضاد للقطعنة وثقافة التماثل ! ولا اظن ان زعيما عربيا تنافس ابناء جيله فى اصدار مذكرات لها صلة بحياته السياسية كالزعيم عبد الناصر، وقد علّق احدهم قائلا إن من نشرب فنجان قهوة معه الّف كتابا عنه، وما ان رحل ياسر عرفات حتى صدرت عشر كتب خلال اقل من عامين عنه، مؤلفوها على اختلاف مواقعهم ومدى قربهم او بعدهم عنه، منهم من كان صادقا ولم يعد انتاج الماضى ومنهم من تخيّل عرفات آخر لا علاقة له بياسر الذى نعرفه. واذا احتكمنا الى منهج ابن خلدون الرائد فى ترجيح رواية على اخرى من خلال القرائن فإن من أنصفوا الزعيم عبدالناصر ليسوا الناصريين فقط، بل خصومه ايضا، فالسيد المسيح كما يقول برنارد شو قد لا يكون مسيحيا وماركس قد لا يكون ماركسيا تبعا لمقولة لويس التوسير الشهيرة، لأن هناك ملوكا اكثر من الملك، وكاثوليكيين اكثر من البابا . وهناك مثالان لا نستطيع تجاوزها فى هذا السياق، احدهما ما كتبه الاستاذ محمد حسنين هيكل عن الزعيم ناصر خلال عدة عقود، وما كتبه الروائى والمحارب القديم اندريه مالرو عن الجنرال ديغول، فهما كانا الاقرب الى كلا الزعيمين، ولا يحتاجان الى اعادة انتاج الوقائع او اجراء جراحات تجميل لصورة مليئة بالندوب، وهناك فى العالم الثالث صحفيون وكتاب حاولوا اقتفاء خطى هيكل ومالرو فى الكتابة عن زعماء، لكن المنهج الخلدونى يسقط من غرباله الكثير من زؤانهم خصوصا اذا احتكمنا كما قلت من قبل الى استقراء القرائن من اجل الترجيح او الاستبعاد! وكتابة المذكرات بحد ذاتها نوع ادبى يصل احيانا الى الابداع بجدارة، وهناك امثلة عن كتاب وفنانين اصبحت مذكراتهم اهم من كل ما انجزوا منها مذكرات راقص الباليه الروسى فازلاف نجنسكى ومذكرات شاتوبريان ومارى بشكرتسيف والشاعر الروسى يوجين يفتشنكو. والمذكرات ليست مجرد سرد لوقائع انها ايضا تأمل فى كل ما اقترن بتلك الوقائع من ممكنات لم تتحقق، وهذا ما اتيح لى ان اسمعه من الشاعر الداغستانى رسول حمزاتوف الذى كان عضوا فى السوفييت الاعلى، وخالف اوامر اطبائه فى احد مستشفيات موسكو، ليشارك فى حفل دبلوماسى عربى له صلة بمناسبة فلسطينية، وهو الذى قال بعد ذلك انه تعلم الكلام فى الثانية لكنه احتاج الى ستين عاما كى يتعلم الصمت، فاللغة احيانا تصبح وسيلة لتعميق سوء التفاهم بين البشر كما صورها المسرحى يونسكو فى مسرحية المغنية الصلعاء، وهكذا المذكرات، فهى احيانا تستخدم لحجب حقائق من اجل ابراز مواقف محددة، خصوصا لدى هؤلاء الذين يصدق عليهم القول رجال لكل العصور . وفى العقود الثلاثة الاخيرة ازدهر موسم المذكرات السياسية فى العالم العربي، خصوصا بعد سقوط نظم سياسية وشيطنة كل ما يصدر عنها، وحين نقرأ بعضها نجد انها تنطوى على قدر كبير من الثأرية وتصفية الحسابات او اعادة تأليف الماضى وليس انتاجه فقط كى يبدو الكومبارس بطلا، ويحلّ سانشوا مكان دون كيشوت فى رواية سرفانتس او رشدى مكان عتريس فى رواية فكرى اباظة شيء من الخوف! ان عدم انصاف الموتى ومحاولة امتطاء قبورهم كما لو انها تطير ليس من الفروسية فى شيء بل هو المعادل الموضوعى لسقوط منظومة من القيم ولأن القبور لا تطير والموتى ليسوا عميانا يعقدون مقايضات مع مشلولين يجلسون على اكتافهم فإن مثل هذه الجرائم تبقى ناقصة ومحكوم عليها تاريخيا بعدم الاكتمال لهذا يعيد البشر كل فترة الاعتبار الى من سلبت منهم الاعتبارات، كما اعيد الاعتبار لمن قال ان الارض تدور ودفع ثمن ذلك بأن توقفت حياته عن الدوران !! اما مفارقة المفارقات كلها فى بعض المذكرات التى تخترع الماضى او تعيد انتاجه فهى ان القول المأثور عن كلمة حق فى حضرة سلطان جائر اصبح فى قواميس ما بعد الحداثة وما بعد الدولة كلمة باطل تقال فى غياب سلطان حتى لو كان عادلا !! لمزيد من مقالات خيرى منصور