حضَّ القرآن الكريم على التحلي بصفة "الإيثار"، ونهى عن "الأَثَرَة"، فماذا قال عنهما؟ ولماذا؟ من صفات المنافقين أنهم يؤثرون أنفسهم على الآخرين، وتلك هي الأَثَرَة، التي نهى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أيضا عنها، أما الإيثار، وهو أن يمنح المرء الاولوية للآخرين على حظوظ نفسه، فهذا الخُلُقُ رُوح الحياة، وقَوام المجتمعات. قال تعالى في المنافقين: "وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴿76﴾ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ"(77).(التوبة). وفي الحديث النبوي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونها،قَالُوا: "يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَال: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ الله الَّذِي لَكُمْ".(البخاري ومسلم). 6 مرات بالقران في المقابل، ورد الحض على الإيثار، باعتباره سبيل السعادة، ونهر البركات، ومادة الفعل "آثر"، ومشتقاتها، في القرآن، ست مرات، في سياقات كلها تحث على إيثار الآخرة على الدنيا، والإيمان على الكفر، والطاعة على المعصية، والآخرين على النفس. في قوله تعالى من سورة طه: "قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا".(72). وسورة النازعات: "فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى"(39). وفي سورة يوسف: "قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ".(91). وفي سورة "الأعلى": "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى"(17). وخامسا في سورة المدثر: "فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ".(24). وأخيرا في قوله تعالى، في سورة الحشر: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".(9). المعنى "اللغوي" في "مختار الصحاح" فإن "آثره على نفسه" من الإيثار. والمأثرة - بفتح الثاء وضمها - هي المكرُمة، لأنها تُؤثر أي يذكرها قرن عن قرن. واستأثر بالشيء استبد به، والاسم "الأَثَرة" بفتحتين. واستأثر الله بفلان: إذا مات، ورُجى له الغفران. وأثر الحديث: ذكره عن غيره، فهو آثر بالمد، ومنه حديث مأثور، أي: ينقله خلف عن سلف. وفي "القاموس المحيط" "آثر": اختار، وآثره: كرمه، ورجل يستأثر على أصحابه أي يختار لنفسه أشياء حسنة. والاسم: الأثرة، والأثر بالضم: المكرمة المتوارثة كالمأُثرة. واستأثر بالشيء: استبد به، وخص به نفسه، وفلان أثيري: أي من خلصائي. المعني الشرعي يقول الله عزوجل - في معرض حديثه عن الأنصار في سورة الحشر - :"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"(9). يقول ابن كثير: "وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا".. أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة، والشرف، والتقديم في الذكر، والرتبة. "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" يعني: حاجة.. أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.. وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم إلى ما أنفقوه، ومن هذا تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فقال - رضي الله عنه -: "أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ". "وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ".. أي من سلم من الشح فقد أفلح، وأنجح. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد