كان زفافا بسيطا ارتدت فيه عباءة مطرزة كانت يوما ما ثوبا بدويا زاهيا لوالدتها.. أدخلت عليه "سلمى" بعض اللمسات العصرية لدى ترزى قاهرى معروف.. لا يطابق الحفل أى من العادات البدوية المتوارثة ورغم أن العروس ابنة قبيلة سيناوية كبيرة ومعروفة إلا أن العريس كان شابا قاهريا وليس له أية أصول فى أى محافظة أخرى لكن سلمى تمردت.. تعلمت وتخرجت فى الجامعة وعملت وتزوجت من شاب غير بدوى وكسرت أشد القواعد البدوية صرامة "ارمى بنتك للتمساح ولا تجوزهاش فلاح.. وابن عمها أولى بيها ولو فى الزفة". كم تغير المجتمع السيناوى وكم تبدلت وتجددت عاداته فلم يعد شيئا فى مكانه.. دخلت البنات الجامعة وعملن وتعلمن قيادة السيارات وتخلين عن الأثواب البدوية المطرزة التى أصبحت تراثا غابرا وزيا غير عملى بالمرة.. الناس أصبحت أكثر مرونة وانفتاحا على الجديد..هذا ما تقوله سلمى الباحثة بأحد المراكز العلمية. وتواصل.. والناس لا تتذكر سيناء إلا فى المناسبات وترفض تغيير الفكرة السائدة عن سيناء. بعض الناس ما زالوا يستغربون أننى من سيناء وأعيش وأعمل فى القاهرة ولم يحدث فى مرة أن نجح أى شخص سألنى عن مسقط رأسى فى تخمين الإجابة.. .. قبل سنوات سألتنى زميلة فى عامنا الأول بالكلية.. هى العريش دى فين.. وقبل شهرين سألتنى طالبة تخرجت للتو من إحدى كليات الإعلام الخاصة.. هى سينا دى بتروحيها إزاي؟.. عندكوا شوارع زينا وعربيات؟.. لم تعد الفتاة البدوية هى التى تظهر كراعية أغنام فى الصحراء على صفحات الجرائد بل أصبحت مدرسة وطبيبة ومحامية.. سافرت فى الداخل والخارج وغيرت عالمها ومن حولها وملابسها وشكلها.. وتخلت حتى عن تراث جداتها.. الزى السيناوى له سحره لقرون طويلة ظلت ملابس السيناويات عنوانا وهوية ثقافية تمسكت بها الأجيال، فلم يكن هناك أى زى آخر للمرأة غير الثوب السيناوى المطرز يختلف حسب المناسبة، فهناك خفيف التطريز المناسب للأعمال المنزلية الصباحية، فهو من القماش القطنى والمطرز على الصدر والأكمام وعلى جانبى الثوب بالخيط الأزرق ولهذا كان يطلق عليه اسم "السيوف" فشكل التطريز كان يشبه شكل السيف المستقيم فترة المساء لها ثوب آخر أكثر تطريزا يطلق عليه "الخويلدى او السلطة" قوامه الخيط الأزرق كارضية أساسية مطعمة بالألوان.. الأفراح والمناسبات لها ثوب مختلف تماما ويطلق عليه "الثوب الأحمر".. فترات الحداد لها أثواب خاصة بها من الخيط الأزرق فقط كبيرات السن لهن أيضا تطريز خاص، وغطاء الرأس أيضا له شكل خاص. كان التطريز فى حد ذاته طقسا بدويا أصيلا حيث تتجمع النساء فى أحد البيوت خلال فترات العصر فى قعدة تطريز جماعى او "الخيطة" كما يطلقن عليها.. قد يستغرق شهورا وقد يستغرق عاما او أكثر من العمل المتواصل.. القاعدة الأساسية هى أن تضع البدوية إبرتها مع آذان المغرب فلا خياطة بعدها.. كل قبيلة مميزة بشكل تطريزها او "العروق" المرسومة على القماش وتستطيع أن تميز قبيلة المرأة بسهولة من الثوب الذى ترتديه. فلكل قبيلة شخصية تميزها فى حجم التطريز ونوعه وألوانه.. ولا يمكن أن تمتلك المرأة أقل من عشرة أثواب مطرزة. تبدل الثوب السيناوى استمر الحال كما هو حتى فترة ما بعد حرب اكتوبر 1973 وما صاحبها من عمليات تهجير الى وادى النيل..مع عودة المهجرين حل الثوب الأسود الفلاحى فى فترات الصباح بدلا من الثوب ذى التطريز الخفيف واكتشفت البدويات أنه أخف وأكثر عملية.. تتذكر الحاجة فاطمة قائلة.. كنا نسخر منهن ونتعجب من أثوابهن وكان عيبا كبيرا ارتداؤه خارج منزلها وشيئا فشيئا ارتحنا فيه وأصبحنا نخرج به من منازلنا لكن لم نتوقف عن حياكة أثوابنا.. بحلول النصف الثانى من التسعينيات كان الثوب البدوى قد أوشك على الاحتضار حتى العروس أصبحت ترتدى الفستان الأبيض وتحتفظ بثوب سيناوى واحد لارتدائه فى صباحية الزفاف.. مع الوقت أصبح السائد هو شراء الثوب جاهزا ثم أصبحت تستعيره من قريبة لها وشيئا فشيئا لم يعد له وجود أصلا واختفت هذه العادة نهائيا إلا فيما ندر. شهدت حقبة التسعينات أيضا بزوغ نجم الجماعات الإسلامية بتسمياتها المختلفة.. وصراعها للسيطرة على المجتمع وكانت المرأة فى قلب هذه الصراع على الهوية..لم يكن هناك مجالا للكلام عن الحجاب او النقاب فالمرأة البدوية لا تكشف شعرها ولا وجهها.. والثوب البدوى يجعل جميع البدويات متشابهات.. ما العمل إذن؟ شجعت هذه الجماعات نسائها او زوجات أعضائها وأقاربهم تحديدا على ارتداء العباءة الخليجية السوداء التى قضت على الثوب السيناوى نهائيا.. لكن المشكلة ان العباءة انتشرت لدرجة جعلت التمييز صعبا إن لم يكن مستحيلا.. بحلول الألفية الجديدة بدأت السيناويات فى بيع أثوابهن المطرزة ومفارش الصوف اللاتى كن يصنعنها على أنوال خاصة فى بيوتهن من صوف الغنم للراغبين فى الشراء..شيئا فشيئا اختفى الثوب نهائيا ولم تعد اغلب البدويات يعرفن مسك الإبرة من الأساس.. تحكى "سلمى" فى آسى كيف اكتشفت أن والدتها باعت جميع ما تملك من أثواب لسيدة صاحبة محل شهير فى القاهرة ومعروفة: واستطاعت انقاذ ثوب أخير هو الذى بأقل من 200 جنيه ارتديته يوم زفافى فى حين أن المصممة تبيعه ب 7 آلاف جنيه.. يوما ما سينتهى كل هذا ولن يبقى فى سيناء ثوبا واحدا, لكن الصحف لن تتوقف عن نشر الصور الأرشيفية كما لو كنا مجرد صورة فى البوم قديم, ولسنا مجتمع يتغير كل يوم..